في مارس الماضي جرت بيني وبين الدكتور طارق كامل وزير الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات جلسة عصف ذهني أو جلسة مناقشة وتبادل الأفكار حول استراتيجية الإبداع التي أعلن الوزير في بداية العام عن بدء إعدادها; لتكون واحدة من مسارات العمل الرئيسية بالوزارة. وتستهدف بناء قدرات إبداعية تحسن التصدير للخارج وتدعم عمليات التنمية الشاملة بالداخل, وبعد مرور ما يربو علي نصف العام التقيت الوزير ثانية الأسبوع الماضي للتعرف علي ما جري وأين نقف الآن, وخلاصة عصف الذهن الثاني أن الوزارة كادت أن تتجاوز أو تنتهي من مرحلة وضع الخطة ودخلت مرحلة العمل علي سد أهم فجوة في التطبيق.. كيف؟من باب التذكير فقط أقول إن المقصود بالإبداع هو النشاط أو العمليات التي تعتمد علي التفكير العلمي المرن, وتؤدي إلي الوصول إلي أفكار جديدة أو تطوير أفكار قديمة, ينتج عنها إنتاج متميز غير مألوف ذي قيمة واضحة مبتكرة, ومقبول اجتماعيا ويمكن تطبيقه واستعماله. وعليه فإن استراتيجية للإبداع في تكنولوجيا المعلومات تعني خططا لبناء قدرات لم تكن موجودة وبالإمكان إيجادها, لكي تقودنا إلي أفكار جديدة ينجم عنها إنتاج متميز غير مألوف وقابل للتصدير خارجيا في مجالات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات, وقابل للتوظيف قطاعيا داخل المجتمع. وخلال أشهر مارس وأبريل ومايو الماضية تناولت في هذه الصفحة كل ما يتعلق بقضية الإبداع علي الصعيد الفكري والتخطيطي وعوامل النجاح وعوامل القلق, والارتباط بين الإبداع والتنمية, ولذلك كانت بؤرة التركيز خلال النقاش مع الوزير الأسبوع الماضي هي: ما الذي تحقق وأين نقف الآن؟ بإيجاز شديد قال الوزير: أنه علي مستوي السياسات اتخذنا كما تعلم قرارا باعتماد الإبداع كواحد من مسارات العمل الرئيسية بالوزارة, وخلال الأشهر الماضية عملنا علي ترجمته في استراتيجية واضحة ببرامج تنفيذية, وقد شارفنا علي الانتهاء من هذا, وفي غضون أسابيع ستطرح وثيقة الاستراتيجية علي الرأي العام, كما أوشكنا علي الانتهاء من إنشاء وبناء الذراع التنفيذية التي ستشرف وتنسق أعمال تنفيذ الاستراتيجية داخل الوزارة وخارجها بالجهات الأخري المعنية, وهي مركز الإبداع بالقرية الذكية, ومع مطلع العام المقبل سيكون المركز قيد التشغيل الفعلي. قلت: هذا الجهد كان مطلوبا والاقتراب من إنجازه أمر جيد, لكنه لا يشتبك بعمق مع تحديات التنفيذ الحقيقية التي تحدثنا عنها سابقا ووافقتني الرأي علي أنها من عوامل القلق علي التجربة ككل. هنا استبقني الوزير مسارعا بالحديث عما أطلق عليه الفجوة الأهم في التنفيذ والتخطيط معا, ألا وهي معضلة نقل الأفكار الإبداعية من مستوياتها الغضة التي تسكن العقول أو بالكاد تخرج منها علي الورق داخل معامل الاختبار, إلي مستوياتها اليافعة التي تمنحها القدرة علي التحول إلي كتلة صلبة لكيانات عاملة ومؤسسات راسخة ذات خطوط إنتاج متميزة في خدماتها ومنتجاتها, وهي المساحة الزمنية والمكانية والمؤسسية التي اصطلح علي تسميتها في العادة ب فترة الاحتضان والرعاية التي تحول الفكرة اللامعة إلي كيان يعمل وينتج ويحقق ربحا ويزيدها نضجا يحقق لها مزيد من النمو والتوسع بمعدل سريع مع الوقت. حينما فتح الوزير المناقشة في هذه النقطة أرجأت الدخول في مختلف جوانب القضية الأخري, وقررت الاستماع له وهو يستفيض فيها, لأن البدء في التنمية المستندة للإبداع يتطلب الانتهاء من ثلاثة أمور تعمل كمثلث متساوي الأضلاع, الأول الإستراتيجية أو السياسة العامة التي تنبع من تقييم للموقف يري أن المجتمع ككل مهيأ للمضي قدما في هذا الاتجاه, ومن ثم توفر المناخ اللازم للبدء, والثاني إطار واضح للتنسيق والتنفيذ وجذب العقول المبدعة وحشدها في برامج ومشروعات الاستراتيجية, والثالث إطار أو بيئة للاحتضان يتلقي هذه الأفكار بعد فرزها وانتقائها وإقرارها ليتولاها حتي تصبح قادرة علي النمو الذاتي, وحسب ما قدمه الوزير في بداية المناقشة بدا واضحا أن الأمرين الأول والثاني تم العمل علي إنجازهما منذ فترة, أما الأمر الثالث وهو إطار الاحتضان والرعاية فلا يزال يشكل الضلع الناقص أو الفجوة التي يتعين سدها قبل البدء الفعلي في التنفيذ, وإلا سنفاجأ بعد أشهر من إشارة البدء بأن لدينا أفكارا جيدة لا نعرف كيف نحولها إلي شركات تقدم منتجا قابلا للتصدير خارجيا أو حلا قابلا للتطبيق محليا. كان الوزير صريحا وهو يتحدث عن هذه الفجوة, وكيف أنها تشكل تحديا حقيقيا أمام التوجه الإبداعي برمته, واعترف مرارا بأنه عند الدخول في التنفيذ العملي وجد هو وفريق العمل بالوزارة أن الإطار الخاص باحتضان الأفكار علي مستوي سياسة إبداعية للقطاع ككل, يتطلب خبرات عملية وقدرات مؤسسية غير متاحة لنا محليا بالقدر الكافي. هنا تساءلت: الوزارة استثمرت كثيرا في الحاضنات التكنولوجية ولديها برنامج تنفذه هيئة تنمية صناعة تكنولوجيا المعلومات ايتيدا, بالإضافة إلي برامج فرعية أخري تتم بالتعاون مع الجامعات, بل هناك خارج الوزارة برامج ومشروعات تعمل علي رعاية الإبداع كما هو الحال مع وزارة التعليم العالي والبحث العلمي. رد الوزير بأن هذه الجهود طيبة وحققت نتائج ونجاحات نعتز بها ونعمل علي تطويرها, لكنها في النهاية لم تنجح كما يجب, لأن المعيار الحاكم في هذا الشأن: كم فكرة تحولت إلي شركة؟ وكم محاولة إبداعية تجسدت في منتج قابل للتصدير أو حل قابل للتطبيق؟ وهل هذا المستوي من النجاح هو بالقدر المطلوب تحقيقه في المرحلة المقبلة, سواء علي مستوي كم الإبداعات المطلوب تحويلها إلي كيانات أو علي مستوي حجم التصدير الذي نريده أو حجم الحلول الإبداعية المطلوب نشرها قطاعيا في المجتمع؟ واصل الوزير: الإجابة لا, ففي السياسة الإبداعية الجديدة نحتاج مستوي مختلفا من الخبرة العملية والقدرات المؤسسية لا يتوافر لدينا, ولذلك نحن كما تقول أمام فجوة ستواجهنا بعد البدء في التنفيذ بوقت قصير, وإذا لم نستعد لها الآن سنجد أنفسنا أمام تحديات قد تخنق سياسة التنمية المستندة للإبداع, لأننا سنكون أمام أفكار لا نستطيع تحويل قدر كاف منها إلي كيانات منتجة ومصدرة, وتوقعات من المجتمع والدولة قد لا نستطيع تلبيتها وإنجازها. قلت:أتفق مع هذا التوصيف للمشكلة.. لكن ما هو الحل؟ قال: مادام هذا النوع من الخبرة العملية والقدرات المؤسسية غير متوافر لدينا كما يجب, فلا مفر من البحث عن شريك يوفره لنا, لنسد هذه الفجوة قدر الإمكان, ولهذا السبب أجرينا مسحا للسوق العالمية بحثا عن أفضل الشركاء المحترفين في مجال الاستثمار المخاطر في إبداع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات, والمتخصصين في إطار احتضان فعال وكاف لاستيعاب الأفكار الإبداعية المتوقع انتقاؤها وإقرارها والعمل عليها, وخلال الزيارات المتعددة للولايات المتحدة وبعد المسوح التي أجراها الفريق المكلف بالاستراتيجية بالوزارة وقع اختيارنا علي شركة بلج آند بلاي الأمريكية التي تعد من أفضل وأكبر الشركات العالمية المتخصصة في رأب الفجوة ما بين الإبداع وتطبيقه وتحويله لمشروعات وشركات, بما لديها من نماذج عمل وأساليب تمويل ورأس مال جاهز للضخ ومعايير للتقييم وخبرات في بناء الشركات ونقل وغرس الخبرة المؤسسية لدي الفرق الإبداعية الناشئة, وستأتي هذه الشركة لتوقيع اتفاق مشاركة مع الوزارة ومركز الإبداع أواخر هذا الشهر, لتكون مستعدة للعمل مع بداية العام جنبا إلي جنب مع الفريق المعني بالاستراتيجية بالوزارة والفريق المسئول عن مركز الإبداع, بما يوفر الإطار الثالث الذي نتحدث عنه ونفتقده حاليا. قلت: أخشي أن يكون الاتفاق مشمولا بأي غطاء غير موضوعي, كمنح لا ترد أو مساعدة أو أي من أشكال الدعم الخارجي التي لا يحركها منطق السوق, فالخبرة التاريخية تقول أن دعم العقول أمر لا يحظي بقبول ورضا المانحين الذين دائما ما يدعمون البطون والأهواء بمنتجات وخدمات تتبدد فور استهلاكها والتمتع بها, ولا تترك فيمن تلقاها أثرا, وبالتالي قد ندخل في متاهة لا داعي لها كما حدث ويحدث مرارا. قال الوزير: أتفق معك في أن أموال المنح والمساعدات لا تبني إبداعا محليا طويل الأجل, مهما طال أمدها واتسع نطاقها, ولذلك حرصنا علي أن تكون المشاركة مع هذه الشركة أو غيرها محكومة بقواعد السوق والمنافع المتبادلة ذات القيمة للطرفين, والشركة التي وقع عليها الاختيار لن تجيء إلي مصر من أجل المقابل المادي الذي ستدفعه لها الوزارة نظير خدماتها, فهذا مبلغ لا يشكل لها حافزا كافيا في ظل حجم أعمالها الضخم, وإنما ستأتي لأنها تعرف أن مشاركتها مع الحكومة المصرية ستوفر لها قاعدة للانطلاق في مجال الاستثمار المخاطر في تكنولوجيا المعلومات بسوق المنطقة علي الأجل الطويل. عند هذا الحد دخلت المناقشة وعصف الذهن في نقطة أخري, هي ضرورة تغيير معايير الحكم علي أداء الوزارة والقطاع ككل في المرحلة المقبلة, وهو ما نتناوله الأسبوع المقبل, وفي النهاية أعيد التذكير بأن مجرد تفكير الوزير والوزارة في وضع سياسة تنموية مستندة للإبداع هو خطوة جيدة في حد ذاته, لأنه يمثل بداية للتحرك مما تحت الصفر إلي الصفر أملا في صعود السلم, وجهد يمكن أن يقودنا إلي استعادة روح فقدناها وقيم يدوس عليها ذوي الهمم الخائرة والنظرة القاصرة, الذين إذا ما تمت دعوتهم للإبداع اتجهوا للاتباع, وإذا طلب إليهم الإنتاج هرولوا للاستهلاك, وإذا شرحت لهم أهمية امتلاك المعرفة ركعوا أمام لذة السمسرة والشراء.