في جلسة عصف الذهن أو جلسة مناقشة وتبادل الأفكار الثانية حول استراتيجية الإبداع مع الدكتور طارق كامل وزير الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات. ركز الوزير علي أهمية تغيير معايير الحكم علي أداء الوزارة والقطاع ككل في المرحلة المقبلة, بما يتناسب مع مقتضيات التوجه نحو التنمية المعلوماتية المستندة للإبداع, موضحا أن معيار الحكم علي الأداء يجب أن يصبح قائما علي المهارة في المخاطرة بالأفكار اللامعة القابلة للنجاح والفشل, وليس بكم وعدد ما يتم نشره من خطوط وأجهزة ومعدات بطريقة آمنة سهلة, وتقديري أن هذا توجه يستحق المساندة المجتمعية الواسعة, لأنه يتوافق مع مقتضيات التركيز علي الإبداع كطريق للتنمية, ولأن سياسة من هذا النوع هي التي تناسب مصر قيمة وقامة. حينما كان الوزير يتحدث عن هذه النقطة مر بذهني شريط ذكريات سريع مع الوزارة منذ بداية إنشائها في أكتوبر1999 وبدء عملها في يناير2000, ولا مانع من العودة إليه لكونه يوضح حجم التغيير الفكري والمنهجي الذي طرأ علي توجهات الوزارة اليوم, ومن المقرر أن يوضع موضع التنفيذ الفعلي مطلع العام المقبل2011. في بدء عملها عام2000 كانت فلسفة الوزارة تتمثل في أن مهمتها الأولي هي نشر الخطوط والأجهزة, كخطوط التليفونات الأرضية واللاسلكية والمحمولة, والخطوط في البحار عبر الكابلات البحرية وفي السماء عبر الأقمار الاصطناعية, وخطوط أو كابلات شبكات المعلومات في مختلف المنشآت عامة وخاصة, وأيضا نشر الأجهزة, من حاسبات مكتبية أو محمولة أو خادمة في المؤسسات والشركات أو تليفونات أرضية أو محمولة في أيدي الناس, مع نشر ما يرتبط بذلك من مهارات تشغيل, عبر تدريب واسع النطاق غير ضارب في العمق لمئات الآلاف وربما بضعة ملايين. قياسا علي هذه المهمة, كانت المؤشرات الإحصائية الكمية- التي تحصي عدد من امتلكوا العدة والعتاد من تليفونات وحاسبات وطابعات وخلافه, ومن جلسوا أمام شاشة يستمعون لمدرب, وعدد الخطوط والسعات التي أتيحت والكابلات التي مدت.. إلخ- هي اللغة الأساس وربما الوحيدة تقريبا المعمول بها في الحكم علي الأداء داخل الوزارة, انطلاقا من أن القياس الكمي يعني أمرين: الأول بناء البنية التحتية للدولة في هذا المجال, والثاني توسيع نطاق انتشار التكنولوجيا والتعريف بها مجتمعيا. اختلفت واختلف معي الكثيرون مع هذا التوجه, علي اعتبار أن الاعتماد علي كم الخطوط والأجهزة في تقييم الأداء والحكم يعد معيارا ناقصا, لأنه لابد من قياس القيمة والعائد ومدي النجاح في توظيف ما يتم تشييده والقدرة علي توظيفه في عملية التنمية الشاملة أولا بأول, خوفا من أن نصل إلي مرحلة نجد لدينا خطوطا لا تستخدم مطلقا أو تستخدم بصورة متدنية القيمة, وشبكات اتصالات ومعلومات لا تجد ما تنقله, ونجد لدينا من تدربوا ثم لا يجدون فرصا للعمل, وقد حدث الشيء الكثير من ذلك بدءا من2003 وما بعدها, ولا تزال الكثير من آثار ذلك ممتدة إلي الآن. اليوم يتحدث الوزير عن أن المهمة الأولي للوزارة هي توظيف ما تم تشييده ونشره خلال العقد الماضي من عدة وعتاد وتحويله إلي مصدر للقيمة وأداة للإنتاج والعمل, مع عدم التوقف بالطبع عن تحديث وتوسيع وتطوير هذه البنية باستمرار, وإحدي أدوات تنفيذ هذه المهمة هي التوجه نحو العقول والاستثمار في إبداعها, سعيا وراء قيمة أعلي, قوامها كيانات ومنتجات وأنشطة وخدمات جديدة, جري إبداعها بمعرفة العقل الوطني, ويتم تحريكها وتشغيلها بالاستفادة من البنية التحتية التي أنجزت. هذا ما فهمته من الوزير خلال المناقشة, ورأيي أن هذه المهمة كانت ولا تزال وستظل إجبارا لا اختيارا, وأنها تؤخر الكثير من الوقت, لأنه بدون مساهمة إبداعية وطنية قوية, ستتبدد وتتبخر من بين أيدينا القيمة والجدوي من وراء ما فعلناه في السنوات العشر الماضية, لنحصل فقط علي فتاتها, كما ستتسرب من بين أيدينا فرصة بناء صناعة تكنولوجيا معلومات واتصالات قوية وأصيلة تنافس في السوق الدولية بصادراتها من المنتجات غير المسبوقة والخدمات غير المألوفة, هذا بالإضافة إلي أننا سنخسر فرصة التفكير والتعامل مع مشكلاتنا المزمنة والمعقدة بمنهجيات مبتكرة وحلول غير تقليدية. يكمل الوزير تصوره في هذا الصدد بقوله إن المهمة الحالية للوزارة ت ناسبها معايير مختلفة في الحكم علي الأداء, فالأمر لم يعد كم سنترالا فتحنا, أو كم خطا وفرنا أو كم جهازا نشرنا في هذا الاتجاه أو ذاك, فهذا لن يكون معيارا حاكما أو وحيدا, بل سيتقدم عليه معيار آخر هو البحث عن القيمة فيما نفذنا, بعبارة أخري سيكون معيار التقييم من قبيل: كم وظيفة وفرنا, وكم منتجا أو خدمة صدرنا, وما هو حجم العائد المادي المباشر وغير المباشر الذي تحقق, وما هي الحلول غير التقليدية والفعالة التي توصلنا إليها للتعامل مع مشكلاتنا المعقدة من الصحة إلي المرور إلي نقص الغذاء والماء إلي حماية البيئة إلي غير ذلك؟.. بعبارة أخري معيار الحكم هو: ما هي الفائدة التي تحققت للمجتمع ونحن نوظف هذه الخطوط والمعدات توظيفا عمليا في خدمة أهداف التنمية الشاملة, سواء بجعلها تدعم مشروعات قائمة أو تنشئ مشروعات تنموية جديدة قائمة بذاتها؟ قلت للوزير: هذه المعايير المختلفة تناسب مرحلة التنمية المستندة إلي الإبداع أكثر من غيرها, لأن النشاط الإبداعي ليس أشياء تباع ويلمسها الناس بأيديهم أو سنترالات ومباني تنشأ ويرونها بأعينهم, بل هي أفكار غير محسوسة تأتي بقيمة محسوسة ولو بعد حين, وهي في ذلك عرضة للفشل, بل إن القبول بفكرة الكثير من الأفكار الفاشلة مقابل القليل بل والنادر من الأفكار الناجحة يعد جزءا أصيلا من ثقافة التنمية المستندة للإبداع. وافق الوزير علي ذلك قائلا: لقد تحدثت عن أمرين مهمين للغاية فيما يتعلق بمرحلة التنمية المستندة للإبداع, هما الطبيعة غير المحسوسة للأفكار الإبداعية وضرورة الانتظار لنتائجها المحسوسة وغير المباشرة أو المباشرة بعد فترة, واقتران الفشل بالكثير من الأفكار والأنشطة الإبداعية, وهذان الأمران من أشد الأمور التي تجعلنا في حاجة لأن يقبل المواطن العادي والرأي العام ومختلف الأطراف بفكرة المعايير المختلفة في التقييم والمحاسبة, فنحن ننتقل من الأنشطة المضمونة قليلة المخاطر الواضحة للعيان في إنشاء البنية التحتية ونشر التكنولوجيا ومنتجاتها وأدواتها, إلي المخاطرة بالأفكار المبدعة في سوق متقلبة حامية المنافسة داخليا وخارجيا, وكما نعلم جميعا فإنه كلما ارتفعت المخاطرة ارتفع مستوي القيمة والعائد المتوقع, وفي الوقت نفسه زادت درجة التعرض للفشل, وهنا نحن لا نخترع نموذجا جديدا للعمل, بل نحاول اللحاق بما سبقنا إليه العالم منذ عقود, فهذه قواعد اللعبة الجديدة في عالم تكنولوجيا المعلومات والاتصالات, أن تبدع بأقصي ما تستطيع كما وكيفا, مستهدفا أن تجني من وراء إبداعك ما لا يحصل عليه الآخرون كما وكيفا لفترات طويلة, عبر ما تتوصل إليه وتملكه من أشياء ومنتجات وخدمات مبدعة لا يملك حقوقها الإبداعية والفكرية غيرك, وكما تري الطريق طويلا وشاقا وله مخاطره المختلفة التي من بينها أن أقل القليل من الأفكار المبدعة هو الذي يتحول إلي مشروعات ناجحة, لكن هذا القليل جدا الذي نجح دائما ما يعوض الكثير جدا الذي فشل, وانظر مثلا: كم فكرة فشلت في مقابل نجاح الفكرة التي كانت سببا في نشأة شركة كمايكروسوفت, وبالمثل كم فكرة فشلت في مقابل نجاح الفكرة التي كانت سببا في نشأة شركة كجوجل, إننا لا يخفي علينا أن دخل الشركتين مما لديهما من إبداع وأفكار يعادل الدخل القومي للعديد من الدول مجتمعة, وعلي هذا نحن نحتاج أن يعي المواطن العادي والرأي العام هذه المعايير المختلفة في القياس والمحاسبة, وأن يتفهم الجميع طبيعة هذا النشاط الذي ننوي الإقدام عليه. بحكم المنصب والمسئولية تحدث الوزير بحرص وحذر شديدين في هذه النقطة, وبحكم أنني لست وزيرا أقول إننا بصدد مشروعات وأنشطة وأفكار إبداعية معروف مسبقا أن معظمها عرضة للفشل, والقليل منها عرضة للنجاح, حتي قبل أن نعرف ما هي هذه الأفكار, ولذلك من المؤكد أنه مع المضي قدما في خطط التنمية المستندة للإبداع سيخرج الكثيرون ليتهموا الوزير والوزارة بأنه بدد الملايين علي مشروعات فاشلة لم تأت بنتيجة, وراءها أفكار لشوية شباب, أو ربما يتطاول أحدهم قائلا شوية عيال, ويمضي في المزايدة علي الوطن وحب الوطن, متصادما مع قواعد اللعبة المعروفة عالميا إما جهلا أو عمدا, وتقديري أن مثل هذا الشخص إما سيكون جاهلا بقضية الإبداع وقواعدها ومتطلباتها, أو مهزوما داخليا وفاقد الثقة في نفسه وفي وطنه, أو واحدا من عشرات الآلاف الذين يتسببون في استمرار تعطيل العقل الوطني وسيطرة منطق السمسرة والاستيراد والعمولات والاستفادة منه وقد يتجسد هذا الشخص في صورة نائب بالبرلمان يشوشر جهلا أو عمدا بكلمات رنانة ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب, أو في صورة مسئول هنا أو هناك يلتحف زورا وبهتانا برداء الوطنية, لكنه فعليا ينفذ أجندة السماسرة وعشاق العمولات, ولهؤلاء وأولئك وغيرهم مما لا نعلم, قلنا وسنقول مرارا: هذه تنمية مختلفة وجهد مختلف ومعايير مختلفة, لأنها ببساطة تنتقل من الخط والجهاز إلي الفكرة والقيمة.