سأكشف لكم اليوم سر الفتاة التي أحبها عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين ووقع أسير غرامها وسحرها.. تخيلها فتاة رائعة الجمال ساحرة الحديث, وكان يذهب لزيارتها كلما سنحت له الظروف. وظلت سره الذي لا يعرف عنه أحد.. حتي إنه من فرط عشقه لها أقام منزلا صغيرا أنيقا إلي جوار قبرها يقيم فيه ثلاثة أشهر من كل عام كي يكون بجوار حبيبته التي ماتت منذ ألفين عام.. إنها إيزادورا.. التي ماتت غرقا في مياه النيل ولم يكن عمرها قد تخطي الثامنة عشرة وبنت لها أسرتها مقبرة بديعة في جبانة تونا الجبل. مكان سار يلفه السكون والطمأنينة ويشيع بجنابته هيبة الموت ورائحة الأبدية. كان الأديب والكاتب الكبير طه حسين هو من استلهم عظمة هذا المكان ووقع أسير غرام إيزادورا والأشعار المدونة علي مقبرتها تنعيها في مسكنها الأبدي, ولا نعرف بالضبط ماذا كان يدور في عقل وقلب طه حسين, فهو لم يحك لنا مشاعره نحو تونا الجبل التي كانت مكانه ومخبأ بعيدا عن صخب الحياة ولاتزال استراحته قائمة إلي يومنا هذا بالقرب من مقبرة معشوقته إيزادروا, تحكي لنا بأسوارها وحديقتها ونوافدها الخشبية المميزة سرا لا يعرفه أحد من أسرار عميد الأدب العربي. لقد كانت أول وظيفة لي بعد تخرجي في كلية الآداب جامعة الإسكندرية هي مفتش آثار تونا الجبل في مصر الوسطي, ولم أكن قد زرتها من قبل, ولا علم لي بها فسمعت أنها منطقة بعيدة عن العمران يزورها عدد قليل من السائحين وبعد انصرافهم لا تسمع في المكان صوتا إلا صوت الريح يصطدم بأطلال المكان.. ولم أكن قد بلغت العشرين من عمري بعد, ولم تكن هذه الحياة التي أتمناها فذهبت لمقابلة الدكتور جمال محرز مدير مصلحة الآثار المصرية في ذلك الوقت, وبشجاعة شاب في مقتبل العمر ومقبل علي الحياة.. تكاد الدنيا لا تسع آماله كلها.. قلت له متسائلا: كيف ترسلني إلي منطقة جبلية لا حياة فيها وأنا خريج جامعي حديث؟! قال لي: هذا هو قرار الدكتور جمال مختار. وتشاء الأيام بعد ذلك أن يصبح المرحوم جمال مختار أحد أعز أصدقائي رغم فارق العمر الكبير بيننا. ذهبت إلي مبني مصلحة الآثار المصرية, وكان يقع خلف المتحف المصري وشاهدت العديد من الحكايات التي جعلتني أهرب من العمل بالآثار.. نظرا لطبيعة الموظفين الشرسة والمقالب التي يصنعونها لبعضهم, ورأيت بعيني مظاهر البغضاء والضغينة التي يكنها الموظفون لبعضهم البعض, حتي إن أثريا كبيرا في السن كان يقف إلي جوار كشوف الحضور والانصراف ليري من جاء إلي العمل ومن تغيب ووقع له زملاؤه, لكي يجمع أدلة ضد زملائي ليستخدمها فيما بعد.. وكنت أري في المصلحة أشخاصا جد رائعين منهم الفنان الكبير الموسيقار أحمد صدقي وكان مكتبه في الطابق الأخير من مبني المصلحة وكان يأتي كل صباح في ميعاد الحضور وينصرف في موعد الانصراف ويقضي يومه صامتا ممسكا بقلمه لكي يرسم المناظر والنصوص الهيروغليفية بأصابع من ذهب ويخرج لنا أساطير فنية أعجز عن وصفها.. وعندما كنت أراه أذهب مسرعا لأسلم عليه وأنا أتذكر أجمل لحن لأجمل كلمات أغنية لأجمل وأحلي مطربة في الدنيا الفنانة العظيمة ليلي مراد بحب اثنين سوا.. يا هناي في حبهم.. الميه والهوا... كنت مازلت أحارب كي لا( يرمونني) في تونا الجبل التي لا يعرفها أحد, وحاولت أن انتقل إلي وظائف أخري كتنشيط السياحة أو أي مكان آخر, ولم أجد وسيلة لذلك حتي إنني تقدمت لاختبار ملحقين دبلوماسيين عقدته وزارة الخارجية ولم أوفق في الاختبار الشفوي, وفي كل مرة كنت أعود إلي هيئة الآثار أحمل هما فوق كتفي اسمه تونا الجبل, وفي كل مرة كان يراني فيها جمال مختار يتوعدني بالعقاب بل والرفد من الوظيفة إذ لم أذهب إلي عملي مفتشا لآثار تونا الجبل المجهولة! ولما يكن هناك بد حزمت حقائبي وحجزت لنفسي مكانا في قطار الصعيد البطيء واستغرقت الرحلة ست ساعات من محطة رمسيس العتيقة إلي محطة ملوي.. ومن هناك وضعت حقائبي داخل عربة أجرة أظنها أول عربة تخرج من المصنع مند عقود سحيقة, وبعد عناء وصلت بي العربة إلي قرية تونا الجبل, والتي تبعد عن موقع العمل بنحو ستة كيلو مترات, ولم يكن هناك بد سوي تأجير حمار لكي يحملني وحقائبي إلي موقع العمل.. ولك أن تتصور صعوبة ركوب دابة وأمامك حقائب في طريق صحراوي مظلم, لا تسمع فيه سوي عواء الذئاب, حتي إن قلبي ظل يرتجف إلي أن وصلت إلي المنطقة لأجد أمامي أربعة أشخاص أستاذ أبادير سكرتير التفتيش, ومساعده سعد, وشيخ الخفراء مصيلحي, ومعهم عامل وطباخ الاستراحة محمد. كنت يائسا ساخطا علي جمال مختار وعلي العاملين في الآثار وعلي موت صديقي مفتش آثار الفيوم المفاجيء, وعلي خوفي علي نفسي من العمل في هذا المكان.. وجاء الأستاذ أبادير ليخبرني أن الأستاذ أحمد سعيد هندي مفتش الآثار غير موجود لأنه في زيارة للقاهرة, وعرفت بعد ذلك أنه يأتي للمنطقة أسبوعا واحدا كل شهر. وهكذا قدر لي أن أعيش داخل استراحة عتيقة رائعة. كانت الاستراحة مبنية من سقفين, وذلك لكي تجعل المكان من الداخل رطبا في الصيف, ودفيئا في الشتاء, وبالاستراحة نحو عشر حجرات وأمامها حديقة جميلة رائعة.. كنت أجلس بها ساعات طويلة اكتب عن الآثار وأدون مذكرات حياتي, بل وأتعلم أن أرسم أتعلم من سحر الطبيعة, ويأتي لي يوميا الأستاذ أبادير ليحكي لي قصصا من الماضي.. ومنها هذه القصة عن طه حسين. فقد حكي لي غرام طه حسين بالجميلة إيزادورا, وزرت معه الاستراحة التي كان يعيش فيها الأديب الكبير طه حسين لمدة ثلاثة أشهر خلال فصل الشتاء من كل عام ليكتب ويؤلف.. وهذه الاستراحة في ظني أجمل الاستراحات التي شاهدتها, وهي كبيرة الشبه بالاستراحة التي كنت أعيش فيها وإن كانت أصغر بكثير.. وكان طه حسين يجلس في الحديقة الخاصة به قبيل غروب الشمس بنصف ساعة, ثم يتوجه إلي مقبرة الجميلة إيزادورا لينير المسرجة الموجودة داخل المقبرة وبها الزيت والفتيل, وعندما سئل عن سبب قيامه بذلك حكي لهم عن قصة هذا الشاب الذي كان واقعا في غرام إيزادورا ويعيش في قرية الشيخ عبادة, وكانت إيزادورا محبوبة جدا من والدها لأقصي درجة, حيث اعتبرها بمثابة رمز للجمال والطيبة والحياء.. وكانت الفتاة الجميلة تحب شابا مصريا جميلا من نفس القرية, وهي الشيخ عبادة التي تبعد حاليا8 كم شمال شرق ملوي, وكانت تعرف القرية باسم ابندبوليس.. وقصة الحب كانت مثار حديث أهل القرية مثل قصة روميو وجولييت.. وتقدم الشاب إلي والد إيزادورا يخطبها ووافق الوالد علي الخطوبة.. وبينما كانت إيزادورا تعبر النيل في قارب صغير لكي تلاقي حبيبها لتمس يديه وتقبل خديه, انقلب القارب وابتلعها النيل.. وبكي الحبيب وأنهار ولم يصدق أن أجمل جميلات الصعيد قد فارقت الحياة.. وبعد ذلك قام والدها ببناء هذه المقبرة الرائعة وذلك في القرن الثاني الميلادي ونقش عليها باليونانية شعرا يحكي قصة حياتها ومماتها, وذكر صفاتها الحسنة من البراءة وفعل الخير وهي تسكن للأبد بالجنة في العالم الآخر. أما الغريب فكان أمر الحبيب الذي كان يسير كل يوم لمسافة8 كيلو مترات لزيارة مقبرة حبيبته ويضيء الشموع كشاهد علي حبها الخالد.. وظل علي هذا الحال إلي أن مات وكان يخلد شعره علي جدران مقبرة حبيبته.. وما كان من طه حسين إلا أنه يحيي ذكري قصة حب لم تكتمل, وكان يتصور أنه بمجرد إضاءة مسرجة مقبرة إيزادورا يحيي ذكري حبيبها ويسعد قلبه في أبديته, ولاتزال إيزادورا بموميائها ترقد داخل مقبرتها علي سرير جنائزي وخلفها نيشة صغيرة زخرف سقفها علي هيئة صدفة.