ذات ليلة من ليالي المحروسة المشحونة دومابالتوتر والترقب, كنت طرفا في نقاش بدأ كالعادة هادئا ثم تحول الي حوار تصادمي, وانقلب آخر الليل الي جدل عقيم أشبه بالعواء والصراخ. حيث يتكلم الكل في وقت واحد ويصعب التفرقة بين الفم والأذن, فالأفواه مفتوحة علي موجة عبثية تصدر شوشرة تستقبلها آذان فقدت عذريتها أو قل طبلتها فأصابها الصمم. لقد كنت أتأمل المتحدثين في حلبة الجد فإذا بعروق الرقاب نافرة والعيون زائغة والانفاس متلاحقة وخطوط الجبين متوعدة, معارك بسلاح الكلمة الاقرب الي كرات اللهب. لم أسترح تلك الأمسية رغم المصافحات عند الافتراق, ادركت اننا نعاني من حالة ازدراء للعقلانية وتلك هي الطامة الكبري في مستقبل الأمم, ومهما كان الجدل مقيما فإنه اهون من الجدل السياسي الذي يبدأ بالتفجير والتصفية الجسدية والخطف من بين الأهل وينتهي بالحوار!! هناك أيضا جدل طائفي عانت منه لبنان علي مدي سنوات الحرب الأهلية, وسر عقم الجدل انه فاقد لطبيعة الإخصاب ويشي بصدور موغرة وتراكمات طويلة وبوح مكتوم, وفي وقت من الأوقات غذت التقسيمات والتصنيفات روح العداء للآخر, فهذا ناصري وهذا ساداتي وهذا بعثي وهذا قومي. وأصبح الحاكم في الجدل هو( المعتقد) وليس( العقل) ولن نصل الي الموضوعية, تلك الكلمة الرومانسية الذائعة الصيت عند المثقفين, وقد كان توفيق الحكيم يسخر من كلمة الموضوعية ويضرب أمثلة من الحياة الأدبية والسياسية, كان يقول ان بعض النقاد إذا استثقلوا دم أديب أو روائي فهو يسقط من منخل التقدير, وكان يقول: حتي نظرتنا لأداء السياسي, فإذا كان دمه خفيفا غفرنا له( البلاوي). فأين الموضوعية؟! الملاحظ من مرصدي المتواضع ان الجدل بين الاصدقاء في حالة الخلاف المر يصل الي جدل بطعم العلقم: وراجعوا الصراع بعد الجدل الطويل بين عبد الناصر وعامر علي السلطة عقب النكسة؟ والشباب حائرون من الحقيقة في تاريخ بلدهم يبحثون ومصر من تكون؟ لقد تصارعت دول أوروبا بعد سقوط حائط برلين علي فكرة الوحدة حتي تحققت, وخذ عندك الوحدة العربية, إنها جغرافيا قد تخضع يوما لمشرط.. التاريخ والمشكلة في الوطن العربي هي شخصانية الحكام. حادثان مهمان لهما عندي دلالات ولا تفوت علي المصري اللبيب, أولهما الجدل المتوتر بين الأهالي ومحافظ انتهي باقتحام الاهالي سرادق فرح جماعي بحضور المحافظ وساد الهرج والمرج والسباب والطوب, والحادث الثاني الاعتداء الصارخ علي سيارات ابرياء وتحطيمها قبيل بدء مباراة بين الأهلي والزمالك في كرة اليد!! وظني ان هذه اللغة من قاموس العنف خرجت كطاقة مخبوءة لم تكن مطلقا تحت السيطرة. لو كان الأمر بيدي لجمعت كل رجال العلوم الانسانية وكلفتهم بدراسة أسباب الجدل الدائر في المجتمع بطعم العلقم واحيانا جدل ملطخ بالدم وأحيانا ثالثة ينتهي بتشويه السمعة والسيرة, راجعوا حكاية الطبيب الذي برأ من ممارسة الدعارة! ففي زمان الانترنت ما أسهل ان احتضن كارلا ساركوزي في صورة يراها العالم في ثانية! هذا ايضا جدل بالتكنولوجيا يخرب البيوت الآمنة, فليس بالضرورة ان يكون الجدل بين طرفين, يكفي ان تكون أنت أو أنا أو هي طرفا في هذا الجدل! إن الدولة ايضا وللأمانة بعض الأجهزة الحكومية المعنية باحتياجات الجماهير تدخل في جدل صامت مع الناس وتمارس نظرية الكي بالانتظار الطويل علي سبيل التعذيب أو قص شريط الخدمة في ثوان بالاكرامية وصحتها رشوة. حتي العلاقات البشرية بين الآباء والابناء تتعرض لجدل محموم يصل الي حد الصعق بجريمة, كذلك فالعلاقات بين الرجال والنساء اذا دخلت في جدل فإن الباطل ينتصر بكسر الذراع والصوت العالي, ما عاد الكلام المهذب عمله في سوق التعامل وما عادت الرصانة شاطئا لحوار, وما عادت العقلانية منهجا في أي جدل وما عادت السماحة بوصلة اتجاهات سليمة حول أي جدل, إن لي معتقداتي ولهم معتقداتهم واتجنب الدخول في دوامة جدل عقيم, ولا أملك معرفة الشيطان الذي يملح علي المجادل طعم العلقم داخل الحلبة. وليس دوري ككاتب سرد الحالة التي وصل اليها الجدل علي شاشة أو فوق الورق أو داخل لجنة انتخابية, بقدر ما هو تحليل هذه العنترية الكاذبة, أنا مثلا لا استطيع الافتاء في الجدل المستحيل بين الفصائل الفلسطينية لترتمي في حضن تفاهم ويصبح الهدف واحدا لا عشرة!. لكني اعتقد وقد يخيب يقيني اننا نبحث دائما عبر الجدل العلقم عن انتصار ما وربما أيضا نتلذذ بهزيمة الآخر, هل تقلصت انتصاراتنا المعنوية لم لا؟ هل اختزلت افراحنا في مباراة كرة؟ ولم لا.. هل غموض المستقبل وراء هذا الشحن؟ هل الهوة بين طبقات المجتمع وراء نفور الرقاب في الجدل؟ هل الفيس بوك الممتلئ بالسباب والشتائم والنقد اللاذع للرموز.. امتداد للجدل بطعم العلقم في المجتمع الواقعي غير الافتراضي؟ ربما! هل افتقاد هدف قومي يلتف حوله الناس جعل منهم خرافا ضالة تبحث عن مرعي؟! هل هي عودة لعصور الجاهلية والمساجلات وحلبات الهجاء المتذع؟! هل المثل الأعلي الباهت الملامح وراء غياب قدوة في عقلانية اي جدل في الشارع أو المصنع وفي جامعة أو معمل؟ هل الكيل بمعايير ذاتية وراء الكيد وإرهاصات الجدل؟ لم لا. لكني احلم طول ما انا عايش بجدل في حياتنا بطعم وسطية الاسلام وسماحة المسيحية. المزيد من مقالات مفيد فوزى