نبحث دوما عن أشياء تبعث في النفس المنهكة بعضا من الطمأنينة وراحة البال, وتضفي علي ظلال الحياة بهجة مفقودة, نعثر عليها أحيانا, نتمسك بها.. لكنها سرعان ما تتواري خلف البال, المرهق, المتعب, المهموم. قد تكون راحة البال هي نبع السعادة, وهي حقا كذلك كل ما في الانسان يتغير, يبتعد عن طبيعته لعدم خلو البال, فمن أين يأتي خلو البال؟ من امتلاك المال الوفير أو من نفوذ السلطة؟ أم في صحة البدن أو باجتماع كل أو بعض هذه الأشياء؟ في نظر العقلاء صحة البدن في النفس والولد وما عداها لاشيء يهم.. وقديما قالوا القناعة كنز لايفني. غير أن الانسان في كل زمان ومكان هو بشرلا يستقر له حال ولا يهدأ له بال, مهموم بالعام والخاص يصارع من أجل الحياة ويتصارع معها. هي كعادتها.. الحياة لاتمنح السعادة الأبدية, ولا تعطي بشرا راحة منسية مهما علا الشأن وارتفع الجاه. ونستذكر هنا ما جري قبل عقود. وقتها لم يكن بال المبدع الدكتور يوسف إدريس خاليا وانزوي عن فعل الكتابة التي أبدع فيها وبرع. تواري قلمه عن صفحات الأهرام لبعض الوقت, حينها شعر القراء بوحشة وأحس بها الكبار من الأدباء ولم ينتظر طويلا شيخهم توفيق الحكيم وسطر رسالة خالدة هي قطعة أدبية في فن الرسائل العابرة بين الكبار بعد أن طال غياب كلم ادريس, والرسالة المنشورة بعنوان من توفيق الحكيم إلي يوسف إدريس, توفيق الحكيم يسأل: لماذا سكت صوتك المسموع؟ استهلها بعزيزي الدكتور يوسف إدريس. أكتب إليك هذا لأسألك سؤالا.. وأكتبه حتي أحدده, وقد تري في السؤال تطفلا, وقد يراه آخرون تدخلا.. ولكني أراه واجبا وهذا الواجب لايفرضه موضعي الرسمي باعتباري رئيس اتحاد الكتاب.. بل يفرضه ما يصفني به بعض الأصدقاء من الأدباء من أني شيخ الكتاب لا بحكم الفضل, بل بحكم السن. بهذا المعني أري من واجبي أن أسأل عن حال أديب مرموق هو يوسف إدريس أراه في مبني الأهرام بجسمه ولا أراه علي صفحاته بقلمه.. ولاشك أن الآلاف من القراء يشاركونني في هذا السؤال.. أين ذهب هذا القلم المطبوع ولماذا سكت هذا الصوت المسموع؟ وفي زماننا الغابر كنت أري الشيخ سلامة حجازي يقف علي خشبة المسرح في مسرحية شكسبير يصيح أمام جولييت النائمة المخدرة بلحنه الشهير أجولييت ما هذا السكوت؟ وأنا اليوم أصيح بصوت أجش ولحن جهير: أيوسف ما هذا السكوت؟ ومن حسن الطالع حركت الرسالة يوسف إدريس فقال: أستاذنا الكبير توفيق الحكيم رسالتك تلك ولو أنها بلا تاريخ فإنها لها قيمة تاريخية عندي وعند أي كاتب في مصر أو في العالم العربي فهي من شيخ الكتاب حين يقرأ ويحس بغياب كاتب. وبعد, لم أسكت ولن أسكت فالسكوت ليس نوما ولا بتأثير مخدر يضعه كاهن لكاتب, السكوت للكاتب موت محق وإذا كنت أنا قد سكت عن الأهرام أو سكت الأهرام عني فأسباب السكون عاصفة هوجاء والمسئولية مشتركة, وما ذنب القاريء؟ ويبدو أن يوسف إدريس كان باله غير رائق فتوقف عن الكتابة لكن حرص الحكيم بقامته علي استمرار عطاء المبدع يوسف إدريس جعله يطلب منه أن يواصل الكتابة والإبداع رغم المنافسة. لكن الكبار لايمارسون صنعتهم إلا في ميدان الكبار, وربما انتشلت هذه الرسالة يوسف ادريس من حالته وجعلته يبدأ من جديد في مواصلة مقالاته الشهيرة بالأهرام. يوسف إدريس له كتاب رائع اسمه خلو البال مصنف ضمن الروايات لكنه في الحقيقة مختلف. في الكتاب عبر عن خلو البال بطريقة المبدع والطبيب النفسي وعالم الاجتماع النبيه, وحمل مقارنات بين بال المصري وغير المصري وأشفق في نهاية الأمر علي المصري. وهذه نبوءة الكاتب.