في الفترات الانتقالية من حياة الأمم والشعوب, وحينما يشتد الحراك الاقتصادي والاجتماعي, فإن الساحة السياسية كثيرا ما تشهد نمو العديد من الحركات السياسية الهامشية بمعني أنها لا تلقي تأييدا عدديا كبيرا في المجتمع ولكنها في نفس الوقت تتمتع بقدرة كبيرة علي رفع صوتها بمطالب, إما أنها راديكالية أو أنها تجري خارج النظام السياسي القائم. وبشكل عام فإنها تسعي لهدمه, ولكنها لا تملك القدرة التنظيمية والمؤسسية لتعبئة قدرات تسمح لها بتحقيق أهدافها التي كثيرا ما تكون مفارقة للواقع أو بعيدة عن الهموم العامة, وعلي الأرجح فإنها تعتمد علي أحلام وحماس الشباب, ولكنها سرعان ما تكتشف, ويكتشفون, أن الأحلام مصيرها ينتهي ساعة اليقظة, أما الحماس فإنه يهمد وقت الوصول إلي طرق مسدودة. وخلال العقد الماضي ظهرت كثرة من هذه الحركات علي الساحة المصرية, وحصل كل منها علي ما يستحق من عشرين ثانية من التاريخ, وكانت هذه الحركات تتبني رؤي وأفكارا غير تقليدية لا تتسامح مع المعطيات الموجودة علي الأرض, وتتجاوز الإطار العام الذي يحكم الحياة السياسية المصرية, وترفع سقف المطالب السياسية بشكل يجعل عملية التفاعل معها غير ممكنة, بل يفرض عليها الدخول في معادلة صفرية مع النظام السياسي القائم. مثل ذلك أدي في النهاية إلي الخفوت والاضمحلال وربما الاختفاء نهائيا من المشهد السياسي, بما جعلها أقرب إلي الفقاعة التي تظهر فجأة وتتضخم بشكل أكبر من حجمها بكثير وهو ما يعطي في بعض الأحيان انطباعات خاطئة, حتي لدي قادتها وأنصارها, بما يمثل نقطة البداية لاختفائها وسط المشهد المزدحم بكثير من التفاصيل. وربما كان أهم ما في هذه التفاصيل الظهور المثير لأجهزة الإعلام الحديثة المعتمدة علي الإنترنت والفضائيات التليفزيونية التي خلقت نجوما لهم خصائص متميزة في القدرة البالغة علي الإثارة والتنافس علي أخذ مراكز القضاة وصناع القرار وتنفيذ السياسة الخارجية!. مثل هذه الظاهرة ليست جديدة في التاريخ المصري الحديث حيث تبدو جمعية مصر الفتاة التي أسسها أحمد حسين في عام1933 مثالا علي ذلك. فقد شهدت هذه الجمعية تحولات مثلت مفارقات في مراحل تطورها المختلفة. إذ بدأت باسم جمعية مصر الفتاة, ثم تحولت إلي حزب مصر الفتاة عام1936, ثم إلي الحزب الاشتراكي بعد عشرة أعوام, أي في عام.1946 لكن الأهم من ذلك هو التحول الجذري في توجهاتها, ففي البداية بدت الجمعية منبهرة بالنظام الفاشي في إيطاليا, ثم حولت انبهارها إلي النظام الاشتراكي السوفيتي. وقد قامت الجمعية بتشكيل ما يسمي ب فرق القمصان الخضراء التي رد عليها حزب الوفد بتشكيل فرق القمصان الزرقاء. وكانت الجمعية أول منظمة تعلن تأييدها لألمانيا وإيطاليا في الحرب العالمية الثانية, وقد طرحت برنامجا سياسيا فضفاضا لم يحمل الأدوات الكفيلة بتحقيق بنوده, مثل مبدأ العمل علي استعادة مجد مصر. ووفقا لبعض الاتجاهات, رفعت الجمعية شعارات حادة وغير منطقية مثل: لا تتحدث إلا بالعربية, ولا تشتر إلا من مصري, واحتقر كل ما هو أجنبي. كذلك صار الأمر بالنسبة ل الحزب الوطني الذي أسسه الزعيم مصطفي كامل, وقد رفع الحزب شعار لا تفاوض إلا بعد الجلاء, وظل متمسكا بهذا الشعار رغم تغير الظروف الدولية وقاده ذلك إلي رفض تصريح28 فبراير1922, ومعاهدة1936, التي قال عنها إنها لا تحقق كل الطموحات الوطنية. لكن الحزب لم يحدد الأدوات التي يمكن أن تسهم في تحقيق الجلاء عن مصر دون تفاوض, وهو ما بدا غير منطقي بالنسبة لقطاع معين من الجماهير وهو ما أنتج تأثيرات سلبية علي شعبيته. فضلا عن ذلك, مثلت أحزاب القصر نموذجا آخر لهذه القوي الهامشية في الحياة السياسية المصرية, فقد دفع صدور دستور1923 القصر إلي التوجه نحو تشكيل أحزاب جديدة, وهو ما تحقق في تأسيس حزب الاتحاد عام1925 برئاسة يحيي إبراهيم باشا, الذي كان الهدف منه تقليص فرص الوفد في السيطرة علي السلطة, وتحقيق نوع من التوازن بين حزبي الوفد والأحرار الدستوريين داخل البرلمان بشكل يصب في صالح الملك. لكن الحزب فشل في تحقيق هذه الأهداف, حيث حقق نتائج هزيلة في انتخابات عام1929, بحصوله علي3 مقاعد فقط, وهو ما أدي إلي التوجه نحو تأسيس حزب بديل هو حزب الشعب عام1930, علي يد إسماعيل صدقي باشا رئيس الوزراء, وفي الانتخابات التي جرت عام1931 حصل الحزب علي56% من المقاعد, لكن مع انتهاء عهد حكومة إسماعيل صدقي, حصل مع حزب الاتحاد علي6% في الانتخابات التالية مباشرة. أما حزب الهيئة السعدية فقد ظهر عام1938, علي خلفية التباين الشديد الذي نشب داخل حزب الوفد, وقد استثمر القصر هذا الخلاف وسعي إلي تدعيمه وذلك لمزاحمة الوفد وتقليص قاعدته الشعبية, وقد أدي ذلك إلي تدعيم الوجود السياسي للسعديين, الذي انعكس في بقائهم لأطول فترة ممكنة في الحكم( حوالي عشر سنوات في عهد الملك فاروق). لكن التطورات التي أعقبت ذلك أسهمت في خفوت الحزب واهتزاز مكانته السياسية, لاسيما بعد تعرض أبرز قادته, وهما أحمد ماهر ومحمود فهمي النقراشي للاغتيال, فضلا عن افتقاده للقاعدة الجماهيرية التي كان يمكن أن تدعم وجوده السياسي, وقد دفع ذلك القصر إلي التخلي عن السعديين, حيث خلت وزارة حسين سري التي شكلت عام1949 من أي من رموزهم, كما حقق الحزب نتائج هزيلة في الانتخابات التي أجريت عام1950, بحصوله علي28 مقعدا فقط. أما فترة ما بعد الثورة, فقد تم حل الأحزاب, وهو ما أعطي حركة الإخوان المسلمين انطباعا بأنها القوة الشعبية المؤثرة, فاتجهت إلي توجيه رسائل للنظام الجديد بأنها القوة الوحيدة التي تستطيع تدعيم قاعدته الشعبية, مقابل منحهم دورا في عملية صنع القرار, وعودة الحياة النيابية, بل عودة الجيش إلي ثكناته العسكرية, وهو ما أدي إلي حدوث توتر في العلاقة بين الطرفين بعد رفض النظام الجديد لهذه المطالب ثم حل الحركة في يناير1954, وقد وصل التوتر إلي ذروته مع وقوع حادث المنشية في26 أكتوبر1954, حيث تم اعتقال ومحاكمة العديد من كوادرها, وقد شكل ذلك مرحلة جديدة في علاقة الإخوان بنظام يوليو امتدت إلي عام1966 حيث تم إعدام بعض قيادات الحركة. ومنذ عام2004, بدأت مصر تشهد موجة من الحركات الاجتماعية الجديدة, وقد انقسمت هذه الحركات إلي قسمين: الأول, الحركات ذات الطابع السياسي, مثل الحركة المصرية من أجل التغيير( كفاية) و الحملة الشعبية للتغيير( الحرية الآن), والتجمع الوطني للتحول الديمقراطي والجبهة الوطنية للتغيير وشايفنكو التي اهتمت بالكشف عما سمته عمليات الفساد والرشوة والتزوير. والثاني, الحركات ذات الطابع الخدمي المطلبي, مثل مواطنون ضد الغلاء وحركة شباب6 أبريل, التي أطلقها مجموعة من الشباب علي موقع فيس بوك, للتجاوب مع دعوة الإضراب التي أطلقها عمال غزل المحلة عام2007, وقد اتسمت هذه الحركات بعدد من الخصائص: أولها, أنها حركات فئوية لم تكتسب قاعدة شعبية عريضة. وثانيها, أنها لم تطرح برامج محددة المعالم للتفاعل مع النظام السياسي. وثالثها, أنها تباينت فيما بينها في حدود السقف السياسي الملتزمة به. وتبدو حركة كفاية حالة كاشفة لهذا الوضع, حيث ركزت أهدافها في إجراء تغيير كامل, لكنها لم تستطع التفاعل بإيجابية مع بعض الإشكاليات المطروحة مثل العلاقة بين الدين والدولة, أو ماهية النظام السياسي المطلوب. ومع إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية عام2005, كانت الحركة قد فقدت جزءا كبيرا من الزخم الذي حظيت به منذ ظهورها في العام2004, والذي أعطي انطباعا مبالغا فيه لدي بعض قادتها وكوادرها بقدرتها علي تعبئة الشارع وقيادة حركة اجتماعية وسياسية لتحقيق أهدافها, وبالطبع فإن ارتفاع سقف المطالب والأهداف التي وضعتها مثل هذه الحركات وعلي رأسها حركة كفاية جعل من مسألة التفاعل بينها وبين النظام السياسي القائم غير منطقية لينتهي بها المطاف إلي الانكماش والاضمحلال. مأساة هذه الحركات أنها بعد أن فشلت في التأثير علي الساحة السياسية المصرية وجدت في الدكتور محمد البرادعي مخلصا لها من أزماتها الشخصية والعامة, ولكن الرجل الذي رفض أن يكون جزءا من عملية التغيير المؤسسي للسلطة في مصر وجد نفسه يواجه نفس العقبات والمعضلات التي واجهت هذه الحركات من قبل. وبينما كان ذلك يجري في الساحة السياسية كان الأمر يسير أيضا في الساحة الصحفية والإعلامية, ومن ناحية هبط الاهتمام العام بالبرامج السياسية في الفضائيات من11% إلي10% من حجم المشاهدة العامة, ومن ناحية أخري هبط توزيع صحف مناصرة للاحتجاجات العامة من قرابة300 ألف نسخة إلي12 ألف نسخة فقط, وما كان أكثر من75 ألف نسخة لدي صحف أخري فإنه هبط إلي أقل من30 ألف نسخة. كل ذلك وصل إلي نهايته المنطقية بعد تحرك المؤسسات العامة للأحزاب السياسية المصرية لكي تقوم بدورها في تطوير وتغيير النظام السياسي المصري من خلال صناديق الانتخاب, والمجالس النيابية المنتخبة, وليس' سلالم' النقابات والجمعيات التي ليس لها عنوان أو هوية. لقد سقط الهامش كما سقط دائما وعاد القلب إلي النبض مرة أخري بعد أن حل موعد التغيير القائم علي أسس دستورية. المزيد من مقالات د.عبد المنعم سعيد