برغم أن أعماله الروائية والمسرحية حفلت برؤي فلسفية جسدت الصراع بين القوي المتضادة علي المستويين المادي والمعنوي و عرضت للعديد من القضايا الميتافيزيقية المعقدة. إلا أنه من المعروف أن الكاتب الكبير نجيب محفوظ قد نأي علي المستوي الإنساني عن الصراعات الشخصية والأدبية و اشتهر بإجاباته وتعليقاته الشديدة الدبلوماسية, حتي عندما فرغ بعض المخرجين و كتاب السيناريو رواياته من مضمونها أو عندما زيفوا رؤاه عند تحويلها لدراما مرئية أو مسموعة, حيث اعلن مرارا وتكرارا أنه غير مسئول إلا عن نصه المكتوب وأنه علي من يريد التعرف علي أدبه و فكره أن يعود للنص الأدبي. وإذا كانت نصوص الاديب الكبير نجيب محفوظ المكتوبة قد حظيت باهتمام الباحثين منذ الستينيات و تضاعف كم الدراسات التي تناولتها عدة مرات محليا ودوليا عقب فوزه بجائزة نوبل, إلا أن محاولة رصد العلاقة بين النص المحفوظي المكتوب والمعالجات الدرامية للنص عبر الوسائط الاعلامية كالسينما والاذاعة والتليفزيون ومدي اتساق الرؤي التي قدمتها هذه المعالجات الدرامية مع مضمون النص الأدبي وتقييم صاحب النص لها-قبولا أو رفضا- لا تزال مجالات تستحق البحث خاصة في ظل تنامي الدراما التليفزيونية والإقبال الجماهيري علي متابعة المعالجات الدرامية للأعمال الروائية عبر شاشات السينما والتليفزيون. من جانب آخر فإن كم الأعمال الدرامية التي تم تقديمها في رمصان هذا العام والتي قدرها البعض بما يزيد علي الثمانين مسلسلا يسلط الضوء علي عدد من القضايا المهمة, إضافة لقضية العلاقة بين النص الروائي المكتوب والمعالجات الدرامية للنص في الاذاعة والتليفزيون, من بينها تأثير الدراما المرئية والمسموعة علي ادراك الجمهور للواقع الاجتماعي والنسق القيمي ومدي تأثير المعامل الأخير علي المعالجات الدرامية للنص الأدبي عند تقديمه تليفزيونيا أو إذاعيا, بمعني هل الاعلام, وفي سياقنا هذا الدراما المقدمة عبر الوسائط الاعلامية كالاذاعة والتليفزيون تحديدا, هو المحرك للمجتمع أم أن المجتمع هو الذي يحدد مضمون الرسالة التي تقدمها الأعمال الدرامية في وسائل الاعلام؟. ورغم أن الإجابة تبدو للوهلة الأولي واضحة وأن التأثير متبادل بين الإعلام والمجتمع من حيث إن الأول يؤثر علي الفرد وبالتالي الرؤي المجتمعية وأن الثاني, ونعني به الإعلام, بدوره في محاولته لارضاء الجمهور يلعب علي الأوتار التي ترتضيها الجماعة من حيث التكريس للقيم والمعتقدات التي يتبناها المجتمع في لحظة ما, إلا أن تحديد التغيرات التي تطرأ علي النصوص الروائية المكتوبة عبر الوسيط الاعلامي ومدي تطابقها واختلافها من حيث الحذف والاضافة مع رؤية كاتب النص وإذا ما كان هذا الاختلاف يتم نتيجة لطبيعة الوسيط الذي يتم من خلاله تقديم العمل أم نتيجة لمواءمات اجتماعية ومدي مساهمة هذه التغيرات في توضيح خبايا النص وفكر كاتبه أو تزيفها, تظل كلها تساؤلات مشروعة وملحة تحتاج لأن نتوقف أمامها. واليوم ومع بدء الاستعدادات للاحتفال بمئوية أدبيبنا الكبير نجيب محفوظ, نحاول أن نتلمس الاجابة عن بعض من هذه الأسئلة علي لسان نجيب محفوظ نفسه الذي خذلته دبلوماسيته الشهيرة في مواضع بعينها من حديثه, فكشف أن بعضا من أعماله تحولت لاشتغاله علي أيدي سماسرة الفن, واعلن عدم رضاه عن تزييف فكره أو فكر الآخرين تحت مسمي المعالجات الدرامية للنصوص الأدبية. كما نعرض من خلال ثلاثية أديب نوبل بين القصرين وقصر الشوق والسكرية التي نقلت ملامح البيئة المصرية وكانت بمثابة السجل الاجتماعي الفترة من1917 ألي1944, للتغيرات التي طرأت علي النص الروائي عندما تم تحويله لدراما إذاعية في الفترة من1960 و1962 وتقديم الجزءين الأول والثاني منها في عام1989 و1990 تليفزيونيا, وإذا ما كانت هذه التغيرات كشفت خبايا النص أم أدت لتسطيحه وتزييف رؤي كاتبه و ذلك من خلال استعراض إجابات نجيب محفوظ عن بعض الأسئلة المتعلقة برؤيته للدراما التليفزيونية في دراسة الباحث عبد الغفار رشدي لنيل درجة الدكتوراه ودراسة الباحثة أمال عويضة عن المعالجة الفنية لصورة المرأة في ثلاثية نجيب محفوظ في الدراما الإذاعية والتليفزيونية.. وإذا عدنا إلي النص الروائي المكتوب قبل ما يزيد علي النصف قرن فسنكتشف أن كاتبنا الكبير نجيب محفوظ استهل ثلاثيته الشهيرة بمشهد لأمينة قابعة خلف شرفتها المغلقة غارقة في تأملاتها وأفكارها التي لاتتجاوز جدران بيتها أو ما يصل إليها من العالم الخارجي من خلال نظرات متلصصة,عبر الفتحات الضيقة في شرفتها المغلقة دائما, انتظارا لعودة السيد أحمد عبدالجواد من جولاته الليلية التي لم تعرف قط حقيقتها, وعبر مايربو علي الألف صفحة ظلت أمينة وإن توارت في خضم الأحداث أشبه بالخيط الذي يربط الثلاثية التي تبدأ بتأملاتها وتنتهي برحيلها وظلت أمينة عبر السنين تجسيدا لحالة أو لصورة عقلية وربما ظلت حلما للبعض طبقا لمنظور وموقع القاريء منها.. فاعتبرها البعض نموذجا للمرأة الحلم ورأي فيها وفي مراحل تطور شخصيتها في أجزاء الثلاثية رمزا لمصر, بينما قرأها النقد النسوي من منظور الاهتمام بالجوانب المسكوت عنها في علاقة المرأة بذاتها وبالعالم الخارجي وفي تعدد الأصوات والانساق الثقافية والاطر المادية والمعرفية التي تحيط بالمرأة. وفي هذا الاطار الأخير تحديدا قدمت الباحثة أمال عويضة دراستها التي عرضت فيها للشخصيات النسائية في ثلاثية محفوظ في النص الروائي والدراما الإذاعية والدراما التليقزيونية والتي خلصت فيها إلي تأثر الدراما التليفزيونية والإذاعية بالظرف التاريخي والمتغيرات الاجتماعية والثقافية التي شهدها المجتمع المصري إبان تقديم العملين, وانعكست في تحاشي النص الإذاعي, الذي تم تقديمه في النصف الأول من القرن الماضي, الترويج للغيبيات والتركيز علي العلاقات المتهتكة و جلسات العوالم والسخرية من نموذج المرأة العاملة, وهي القيم السائدة في تلك الفترة, مقابل تركيز الدراما التليفزيونية التي تم تقديمها في نهاية عقد الثمانينيات في القرن العشرين, والذي شهد ظهور رواج لأشكال فتية تلائم متطلبات ظهور طبقات طفيلية وتراجع الطبقة الوسطي وقيمها لصالح قيم ورؤي استحدثتها الطبقة الجديدة وموجات الهجرة للعمل في مناطق النفط, علي الانحراف ومجالس العوالم باعتبارها مرادفا للرجولة والترفيه. كذلك فقد لاحظت الباحثة تحاشي الدراما الاذاعية والتليفزيونية طرح الأفكار الفلسفية واخفاقهما في تقديم العمل الروائي بصورة تقترب من بنائه الأصلي ونقل ما حفل به النص المحفوظي من رؤي ونبوءات وقدرة علي رسم الشخصيات وأن الشخصيات في العملين تم تقديمها في أنماط لا تجسد استدارة وتكامل الشخصيات التي يبرزها النص الروائي وإن تفوقت الدراما التليفزيونية في اساءة استغلال صورة المرأة. وأخيرا وبعد أن رصدت هذه الدراسة جوانب الاختلاف بين واحد من أهم أعمال نجيب محفوظ الروائية وبين ما استمع إليه وشاهده الجمهور عبر الوسائط الاعلامية, تري كيف كانت علاقة أديب نوبل بنصوص أعماله الدرامية؟ وما الذي جري علي لسانه عندما تخلي عن دبلوماسيته المعهودة... هذا ما سنعرفه من تقرير الزميل جمال نافع....