رغم أحزانه كان الساخر الأعظم, ورغم شجنه كان ملك ملوك الضحك, سواء وهو يكتب الشعر أو يرسم الكاريكاتير أو يداعب أحد أصدقائه في دردشة عابرة: ظهرت بوادر السخرية مبكرا عند صلاح جاهين وهو طالب في الثانوية, إذ يقول صديقه الرسام هبة عنايت: كنت أرسم بخطوط سريعة ومن الذاكرة وجه فلاح, فما أكاد أنتهي من الرسم حتي يكتب تحته فلاح مصري ابن ناس يستاهل ضرب المداس.. وعندما أرسم وجه خواجة مثلا فيكتب عجوز انجليزي ابن هرمة يستاهل ضرب الصرمة.. وذات مرة كنا نستمع إلي صوت أسمهان تغني: دخلت مرة في جنينة أشم ريحة الزهور فعلق صلاح قائلا: ريحة الزهور ممكن نشمها من غير دخول الجنينة! ثم إن أي واحد ممكن يدخل جنينة, يعني ما فيهاس شطارة! قلت: طيب قولي لي عاوزها تقول إيه علشان يبقي فيها شطارة؟! فسكت برهة وقال: دخلت مرة في قزازة أشم ريحة الكازوزة, قالوا حلوة بلذاذة لقيتها حلوة بلذوذة.. كده يبقي ليها طعم وريحة كمان.. ها.. ها.. وقال صلاح أبياتا من الشعر الفكاهي: جاءت سنية للدكان باسمة ريانة الرأس تبتاع منديلا وزغزغتها فاستبوخت عملي قلت ماذا قالت بس جك نيله كما قال: في حانة الفقر والآمال خرساء وبومة النحس تنعي حظ من جاءوا شربتهاخمرة سكا مركزة لم تأتها صورة أو شابها ماء ليلي تسلت بقلبي فهو في فمها لبانة إيكة هبا باء والكلمة الأخيرة هي نوع قديم من اللبان. وتتجلي الضحكات عند صلاح جاهين في رسومه الكاريكاتيرية, والمدهش أنه تناول قضايا في السبعينيات والثمانينيات مازالت تعيش بيننا حتي الآن, ولو نشرت هذه الرسومات اليوم لما أحسست بفرق الزمن فيها, فمثلا رسم كاريكاتير يظهر فيه مراقب وطالب في لجنة امتحان, والطالب يسأل المدرس: يا بيه يا بيه يا بيه..! عايز إيه؟ ميدو بالألف والا بالهيه؟ ليه؟ عايز أكتب اسمي علي ورقة الإجابة! وهناك رعب الثانوية العامة الذي يبدو أن الوزارة تحاول علاجه منذ السبعينيات وحتي الآن بلا جدوي.. إذ رسم صلاح جاهين صديقين يمران أمام دار سينما وكتب عليها البعبع.. فيلم الموسم.. ودارالتعليق منهما كالتالي: ده مش فيلم رعب ياعبيط.. ده فيلم تسجيلي عن امتحان الثانوية العامة! وفي رسم آخر, هناك طالبان أمام مدرسة, أحدهما مبسوط يقول لصاحبه الكشري يا بني اعقل.. ح يمتحنونا في إيه إذا كان فيه أزمة ورق؟ وفي رسم آخر يظهر مركز رصد الزلازل وبه موظف يقول: ده مش زلزال وانت الصادق.. دي مصارين أهالي تلامذة الثانوية العامة بتكركب! تروي شقيقته بهيجة كيف كانت طفولة صلاح جاهين تحمل شقاوة لا مثيل لها تقول كان يكره العدوانية ولا يميل إلي الصخب, وكان شجاعا وجريئا لدرجة أن هناك صديقا للعائلة اسمه الدكتور محمد العناني جاء إلي بيتنا مرة وكان صلاح في الثالثة من عمره فوقف علي كرسي وقال: كاني ماني ودكان الزلباني.. الدكتور العناني! ووصل المجلة فالتقي برئيس تحريرها أحمد بهاء الدين واسمعه الرباعية ليأخذ رأيه فطلب منه أحمد بهاء الدين أن يكتب رباعية كل أسبوع لتنشر في صباح الخير, ولما طلب منه هيكل أن ينتقل إلي الأهرام كرسام كاريكاتير عام1962, توقف عن كتابة الرباعيات حتي عام عام1966 رئيسا لتحرير مجلة صباح الخير فأكمل الرباعيات وبعد حرب1967 عاد مرة أخري إلي الأهرام. والمدهش أن والد صلاح جاهين كان يحارب نزعته لدراسة الفن أو التخصص أكاديميا في الرسم أو التصوير, وهنا موقف دال يرويه الفنان الكبير الرائد حسين بيكار قائلا: جلست في مكتبي أستمع من بعيد إلي أصداء الصخب المنبعث من مرسم قسم التصوير الذي كنت ارأسه, وقد اختلطت أصوات الطلبة والطالبات محدثة خليطا من الضجيج يتنافي مع جلال المكان الذي ينبغي أن يحاط بغلالة من الصمت الوقور الشبيه بمحاريب العبادة والصلاة. وفجأة وأنا أحاول إبعاد هذا الضجيج من وجودي, إذا بطالب قصير القامة يقترب مني بحذر شديد ويقول: اسمي صلاح جاهين سنة أولي تصوير, وجئت استشيرك في مشكلة تقلقني لدرجة أفقدتني توازني.. فأنا أحب والدي لدرجة التقديس, وكانت أمنيته أن أسلك الطريق نفسه الذي سلكه, فألحقني بكلية الحقوق التي قضيت فيها عامين مرغما لأن اهتمامي كله كان منصرفا إلي الفن.. فقررت أن أنسلخ من كلية الحقوق, ألتحق بكلية الفنون الجميلة, الأمر الذي كان يرفضه أبي تماما.. ولهذا تجدني في غاية الحرج لا أريد أن أحبط والدي, كما لا أريد أن أكبت مشاعري الصادقة التي تتصاعد يوما بعد يوم لدرجة الهوس..! بهرتني شجاعة هذا الطالب وتشبثه بصدقه النبيل, فقلت له: هل في إمكانك أن تحدد لي موعدا ألتقي فيه مع والدك؟! وفي اليوم التالي, جاء صلاح بصحبة والده, الذي جلس فوق مقعده كأنه أحد تماثيل كهنة آمون.. بادرته بقولي: أرحب بك كوالد لواحد من أكفأ الطلبة الذي أتنبأ له بمستقبل يشرفك ويشرف مصر, والفن يا سيدي المستشار ليس مهنة يتبرأ منها الإنسان.. فهناك من عمالقة التاريخ من يتربعون فوق قمة المجد والشهرة أمثال مايكل أنجلو ورمبرانت في الخارج, وأمثال محمود مختار ومحمود سعيد في مصر, بينما لا نري في المهن الأخري مهما تعاظمت من يحتل هذه المكانة في قلب ووجدان الجماهير.. وأن مكان صلاح جاهين في الفن, ولا شيء غير الفن. ارتسمت سمات الامتعاض علي ملامح الوجه المتجهم, ورحل الرجل دون أن يطلعني علي قراره الأخير!! في اليوم التالي, توجهت كعادتي إلي المرسم, بحثت عن صلاح بين زملائه فلم أعثر له علي أثر.. وفي اليوم اللاحق أيضا كان المرسم خاليا منه, وتوالت الأيام دون أن أري صلاح منهمكا في رسم النماذج التي كان يقبل عليها بنهم شديد.. وعلمت من زملائه أنه عاد إلي كلية الحقوق إرضاء لوالده.. ولكنه لم يلبث فيها إلا بعض الوقت حتي انسلخ منها أيضا وانقاد إلي قدره الذي حدده له التاريخ.