تقدم أو تخلف منطقة الشرق الأوسط مرتبط ارتباطا وثيقا بحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي تحديدا. فهو القضية وهو قلب الصراع الذي أنهك المنطقة علي مدي ما يزيد علي نصف قرن. فأي حديث عن تنمية حقيقية تقود إلي تقدم اقتصادي ملموس يضع الشرق الأوسط في مصاف التكتلات الإقليمية الكبري مثل منظمة(NAFTA) في أمريكا الشمالية, وال(IFTA) في أمريكا الجنوبية, والآسيان(ASIAN) في جنوب شرق آسيا و(الكوميسا) في إفريقيا, ليس ممكنا ولن يكون ما لم يصل ذلك الصراع إلي حل نهائي. كذلك الحديث عن نشر الديمقراطية والحرية بين ربوع تلك المنطقة لن يصبح واقعا ملموسا ما لم يتحقق ذلك الشرط, فبغيره ستظل الذرائع جاهزة باستحالة تحقيق ذلك المطلب, حيث إن عنصري' الأمن والاستقرار غير متوافرين'. فضلا عن استمرار الربط بين استمرار هذا الصراع وصعود قوي الإسلام السياسي بأطيافها وتياراتها المختلفة. فتلك القوي سواء, كانت في الحكم أو المعارضة, باتت تستمد كثيرا من عناصر شرعيتها السياسية من صفتها كقوي' مقاومة للاحتلال', و' داعمة للقضية الفلسطينية' ومن هنا تم' تديين' الصراع, ثم أصبحت تلك القوي بدورها تشكل خطرا علي عمليات التحول الديمقراطي في المنطقة سواء بحكم أيديولوجيتها' غير الديمقراطية' أو لنجاحها في تقديم نفسها داخليا وخارجيا علي أنها البديل الوحيد المطروح في حالة الإقدام علي أي انفتاح ديمقراطي. ودون الدخول في كثير من التفاصيل والجدل حول تلك الإشكالية, سيظل هناك ربط بين قضايا المنطقة كلها أي بين تحقيق السلام والتنمية والديمقراطية, والأمن والاستقرار وظهور تكتل إقليمي علي غرار التكتلات المعاصرة القوية والقادرة علي المنافسة. ولذلك فالمشهد في الشرق الأوسط يبدو شديد التعقيد, ويبدو الصراع العربي الإسرائيلي والفلسطيني الإسرائيلي علي وجه الخصوص من نوع الصراعات المستعصية علي الحل ويشبه البعض بحالتي جنوب إفريقيا( حيث كان التمييز العنصري متجذرا وطويلا ومستعصيا علي الحل) وايرلندا الشمالية( حيث كانت أعمال العنف ذات الطابع الديني والسياسي تبدو جزءا من طبيعة ثابتة في تلك المنطقة قبل التوصل الي تسوية لها بعد عقود طويلة من الزمان). واليوم قد يبدو صراع الشرق الأوسط أكثر تعقيدا, إذ تتداخل فيه جميع العناصر السياسية والدينية والديمغرافية, وتوزيع الثروة والموارد, والتنازع علي الأرض فضلا عن تشابك العناصر الدولية والإقليمية والمحلية فيه. فهل يمكن أن يكون انطلاق المفاوضات المباشرة اليوم بين الفلسطينيين والإسرائيليين هو بداية الحل؟ تبدو الإدارة الأمريكية الحالية لأوباما متحمسة لتحقيق انجاز ما علي هذا الصعيد رغم الإخفاقات المتتالية التي منيت بها جميع الإدارات السابقة. وربما إعلان أوباما المبكر عن أولوية تلك القضية علي أجندة سياساته الخارجية, فضلا عن الجولات المكوكية التي قام بها مبعوث الشرق الأوسط جورج ميتشل الي المنطقة, وانتهاء برعاية واشنطن المباشرة لانطلاق تلك المفاوضات هي دلالات واضحة علي ذلك. وربما يحمل وجود ميتشل بالذات في مثل هذا المنصب دلالة خاصة تعكس التصور الأمريكي لشكل وأسلوب الحل. فهو نفس الرجل الذي عينه الرئيس السابق كلينتون كمبعوث للسلام في ايرلندا في منتصف التسعينيات ليكون في النهاية عرابا للاتفاق الذي ابرم بين ايرلندا الشمالية والمملكة المتحدة وتسوية الكاثوليك والبروتستانت والذي كان صراعا مركبا يجمع بين الدين والسياسة والمصالح والذي تم من خلال ما سمي' بالتنازلات المؤلمة' من قبل جميع الأطراف. وبالمقارنة يري البعض استعداد السلطة الفلسطينية برئاسة محمود عباس, وحكومة إسرائيل بقيادة نتانياهو هو الأقرب الآن لتلك الصورة مثلما تتم المقارنة بين حماس وموقفها الرافض من المفاوضات وبين الجيش الجمهوري الايرلندي الذي قاد العمليات المسلحة طويلا ولكن انتهي به الأمر في النهاية الي المفاوضات. ولميتشل مقولة شهيرة حول دوره في ايرلندا وصعوبة المهمة التي قام بها يقول فيها' بأنه كان هناك700 يوم من الفشل ويوم واحد من النجاح' وانه لم يكن هناك مكسب نهائي أو خسارة نهائية لأحد, أي أنها لم تكن نتيجة صفرية بل حل وسط توافقت عليه الأطراف. وإذا كانت ثمة دروس يمكن الاستفادة منها فهي أن سنوات التفاوض حتي تلك التي لا يتم التوصل فيها الي اتفاق نهائي لا تضيع سدي وإنما تكون عملا تراكميا ينتظر اللحظة المناسبة التي يصبح فيها واقعا ملموسا. وينطبق ذلك- أو يجب أن يكون كذلك- علي المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية. صحيح ان الجولة الأولي قوبلت بكثير من التشاؤم, سواء من جانب المحللين العرب او الأمريكيين أو الإسرائيليين إلا أن ذلك لا يعني الاستسلام لتلك النظرة, وإغلاق الملف بدعوي التعقيد والإحباط الذي يحيط به. فعلي مدي ال17 عاما الماضية منذ إبرام اتفاقيات أوسلو1993 الي واي ريفر1998 وانابوليس2007, مرورا بخارطة الطريق2002 تم التفاوض حول أغلب القضايا الحساسة أو قضايا الحل النهائي( أي الحدود والقدس واللاجئين والاستيطان وغيرها), كما تم تجاوز عقبات كثيرة مثل تراجع معدلات العنف, تمتع السلطة الفلسطينية بصفة الشريك في المفاوضات وقدرتها علي فرض النظام العام في الضفة الغربية,مقابل تراجع نسبي في حركة الاستيطان وتبني الولاياتالمتحدة لأول مرة الدعوة إلي تجميده ثم قبول عموم الفلسطينيين والإسرائيليين' بحل الدولتين' كما انه_ وربما هذا هو الأهم- أثبتت الأحداث أن الحروب- مثلما رأينا في لبنان وغزة- لا تستطيع ان تحسم هذا الصراع. صحيح أيضا أن هناك صورة عامة غالبا ما ترسم عند الحديث عن المفاوضات تقسم المشهد إلي طرفين لا يلتقيان, بمعني أن السلطة الفلسطينية غير مستعدة للقبول بأقل من دولة قابلة للحياة; أي علي بقعة جغرافية متواصلة في الضفة الغربية وغزة تكون عاصمتها القدسالشرقية, وعودة اللاجئين وفقا لاتفاقيات جنيف وأن إسرائيل في المقابل غير مستعدة للقبول بأكثر من دولة فلسطينية رمزية منزوعة السلاح تحتفظ فيها إسرائيل بالسيطرة علي الحدود والمجال الجوي وإمدادات المياه مع الإبقاء علي مستوطنات قد تؤدي الي تقطيع أوصال الدولة جغرافيا والاحتفاظ بالقدس عاصمة موحدة لإسرائيل وهو ما يعني رفض الانسحاب من كل الأراضي المحتلة منذ1967, وكذلك رفض عودة اللاجئين لتأثير ذلك التركيب السكاني بحكم عددهم الضخم الذي قد يزيد علي ال4 ملايين فلسطيني. ولذا ترفع إسرائيل شعار' يهودية الدولة'. وبرغم هذه الصورة' النمطية التي كانت دائما مصدرا للاحباط في أي مفاوضات للجانبين إلا ان ذلك لا يعني أنها ظلت باقية علي حالها. فهي فقط توضح السقف الأعلي لكل من طرفي المفاوضات. ولكنها قابلة أيضا لكثير من المساومات والحلول الوسط وتلك هي غاية أي مفاوضات وصولا لحل توافقي. وقد حدث ذلك بالفعل علي مدي سنوات التفاوض السابقة, سواء ما يتعلق بمساحة أراضي الدولة الفلسطينية المقسمة الي المنطقة( أ) تقع تحت سيطرة كاملة للفلسطينيين و(ب) تخضع لسيطرة مشتركة للفلسطينيين والإسرائيليين' و(ج) الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية إلي جانب ما يعرف بصفقة' تبادل الاراضي' التي تفضي ببعض التعديلات علي حدود1967, وتدخل ضمنها قضية المستوطنات, وكذلك بالنسبة للقدس فرغم شعار' القدس الموحدة عاصمة لإسرائيل' الذي ترفعه الحكومات الإسرائيلية إلا أن المباحثات السابقة طرحت حلولا لوضع القدس خاصة ما يتعلق بالشطر الشرقي الذي به المسجد الأقصي, وبالمثل فيما يتعلق بقضية اللاجئين. لكن الجانب الأصعب سيظل هو ما يتعلق بالترتيبات الأمنية, وضبط الحدود بين الجانبين, والبحث في مرابطة قوة ثالثة( دولية أو من حلف الناتو) فيما يعرف غور الأردن والتي يفترض الوصول إليها خلال عام, وهو السقف الزمني المحدد للمفاوضات المباشرة الحالية. وربما تكون تلك هي الرؤية الأمريكية التي تراهن علي انجازها إدارة أوباما لتحقيق انتصار تاريخي في قضية الشرق الأوسط قبيل الاستعداد للانتخابات الرئاسية الأمريكية بعد عام من الآن. ولا شك أن دعوة كل من مصر والأردن لرعاية المفاوضات المباشرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين هي لضمان النجاح لها, وعدم تكرار سيناريو الفشل الذي منيت به إدارة كلينتون في واي ريفر في وجود عرفات الذي اخفق في الالتزام بما اتفق عليه. فدعم الدول الإقليمية الرئيسية هنا حيوي ولازم في تلك المرحلة خاصة في مواجهة الانقسام الإقليمي بين ما يسمي بقوي' الاعتدال' وقوي' التشدد والرفض'. قد لا يكون الحل النهائي سهلا, ولكنه ليس بالمستحيل, ولا هو استثناء فريدا في الصراعات التي شهدها العالم وتمت تسويتها فقط يجب أن تتوافر له الإرادة السياسية من جميع الأطراف, والتوظيف الفعلي لثقل الولاياتالمتحدة. المزيد من مقالات د . هالة مصطفى