بعد أن هدأت الضجة التي أثارتها الدعوة الخرقاء لحرق المصحف الشريف, والتي أثارت اهتمام وغضب الرأي العام في كل مكان يعيش فيه مسلمون, واستدعت تدخل الرئيس الأمريكي. وتوجيهه نداء علنيا يحذر فيه من مغبة هذا الفعل.. لا بد أن نتأمل في دلالات ما حدث, وأن نفكر فيما هو أعمق من التعليق علي الأحداث الجارية بالإدانة أو الشجب, فهناك العديد من الحقائق التي ينبغي التوقف أمامها; الحقيقة الأولي أن هذه الأزمة لم تنشب بسبب خلاف بين المسلمين في أمريكا وهيئة حكومية بل مع جماعات سياسية وهيئات دينية, فالحكومة الأمريكية ممثلة في الرئيس أوباما وعمدة نيويورك بلومبرج أيدا مشروع إقامة المركز الإسلامي في المكان المختار له باعتباره تطبيقا لمبادئ الحرية الدينية والتسامح الديني التي تعتبر أحد أسس المجتمع الأمريكي, وأن الولاياتالمتحدة تعتز كثيرا بالتعددية الدينية والثقافية لشعبها.. المشكلة لم تكن مع الحكومة ولكن مع قطاع كبير من الرأي العام الذي اعتبر أن إقامة المركز الإسلامي في هذا المكان يمثل استفزازا لمشاعر ضحايا حادث تفجير برجي التجارة العالمي في2001, وظهر الانقسام في نتائج استقصاءات الرأي العام ما بين مؤيد للمشروع ومعارض له مع غلبة للتيار المعارض ففي استطلاع أجراه مركز جالوب أوضح أن16% يوافق بقوة علي المشروع وأن4% يوافق بينما لا يوافق عليه بقوة32% ولا يوافق2% وأن41% ليس له رأي محدد و2% لم يجب علي السؤال. وهذه النتائج توضح عدم اهتمام نصف العينة تقريبا بالموضوع أما النصف المهتم فقد غلبت عليه روح المعارضة وعدم الموافقة, وهذه المعارضة تشير إلي واقع قائم في الولاياتالمتحدة علينا التعامل معه, وأشير أيضا إلي حادث مماثل في موسكو فقد أثار قرار حكومة المدينة إنشاء مسجد في أحد الأحياء جدلا ومعارضة من جانب سكان الحي من غير المسلمين. والحقيقة الثانية أن هذا الموقف يعكس نموا للاتجاهات المعادية للإسلام والمسلمين في أمريكا مما يثير التساؤل..( وفي دول أخري) مما أدي ببعض المحللين إلي إثارة السؤال: هل تراجع التسامح الديني في أمريكا ؟ فهناك تطور حاصل يغذيه أفكار اليمين المحافظ والتيارات الدينية المتعصبة. وللدلالة علي ذلك, فإن مركز جالوب قد ذكر في تقرير له في يناير2010 بعنوان' الإدراكات الدينية في الولاياتالمتحدة' أن43% من الأمريكيين يشعرون بمشاعر العداء وعدم الثقة تجاه المسلمين مقارنة بنسبة18% تجاه المسيحيين و15% تجاه اليهود و14% تجاه البوذيين, وأن33,3 من الأمريكيين يعتقدون بأن الإسلام دين' غير مفضل' مقارنة بنسبة9% تري أنه دين مفضل. وفي هذا السياق, برزت آراء وأفكار تتحدث عن الخطر الإسلامي علي الحياة الأمريكية, وأن هناك دعوات لترويج الشريعة الإسلامية التي_ من وجهة نظرهم_ تتعارض معارضة صارخة مع القيم السائدة في المجتمع, وكان من أبرز السياسيين الذين دعموا هذا الاتجاه نيوت جينجريتش زعيم الأغلبية الأسبق من الحزب الجمهوري في مجلس النواب إضافة إلي عدد من النواب في الكونجرس. وكان من شأن هذه الآراء زرع مشاعر الكراهية وعدم الثقة في الأمريكيين المسلمين, وإيجاد مناخ من التعصب والتمييز ضدهم. والخلاصة أن ما شاهدناه في الولاياتالمتحدة في الأسابيع الماضية ليس مجرد رد فعل لفكرة بناء المركز الإسلامي ولكن تعبير عن تطور سلبي بدأ في الولاياتالمتحدة من عام2001. والحقيقة الثالثة أن أنصار مبادرة قرطبة التي تهدف إلي بناء المركز الإسلامي, وعلي رأسهم الإمام فيصل عبد الرؤوف( استخدم تعبير الإمام تمشيا مع الإشارة إلي الشيخ في وسائل الإعلام الأمريكية والدولية وإن كنت لا أعرف أصل التسمية وسببها( والجمعيات التي تؤيده مثل مسلمون من أجل السلام لم ينجحوا في الإجابة علي كل الأسئلة التي أثيرت بشأن المشروع, فكان هناك لبس بشأن شكل المبني ذي الثلاثة عشر طابقا والذي يضم مركزا إسلاميا ومسجدا, ولسبب ما حرص القائمون عليه علي التأكيد بأن المبني لن يتم تشييده أو زخرفته علي النحو المعروف في المساجد الإسلامية. ولكن القضية الأكثر أهمية هي معرفة مصادر التمويل للمشروع التي تصل إلي100 مليون دولار, فعلي موقع المشروع علي الانترنت هناك إشارة إلي عدد من المنظمات المسيحية واليهودية التي تؤيد المشروع ولكن دون توضيح عما إذا كانت هذه المنظمات قد ساهمت ماليا أم لا؟ كما يشير الموقع إلي كيفية التبرع لصالح المشروع, ولا يتطلب أن يقوم المتبرع بالإفصاح عن هويته وإنما أن يقوم بتحويل المبلغ إلي حساب المشروع, وأن يكون له عنوان بريد الكتروني. كما حرص الإمام عبد الرؤوف علي عدم الحديث عن مصدر التمويل مؤكدا فقط أنه لن يتم استخدام أموال دافعي الضرائب الأمريكيين في بناء المركز مما فتح الباب للتقول والاتهام بأن مصدر التمويل قد يكون القاعدة أو إيران, وقام عدد من أعضاء مجلس النواب بطلب إجراء تحقيق قانوني بشأن مصادر التمويل. وفي مقال علي الإنترنت يوم9/12 كتبت فتاة باسم سارة نعماني مقالا بعنوان' الأموال وراء مشروع المسجد', قدمت نفسها فيه علي أنها عضو في اللجنة القائمة علي بناء المركز وذكرت أن ما تمتلكه اللجنة في حسابها بالبنك هو مبلغ تسعة الآف دولار أمريكي فقط. وأحدث هذا المقال مزيدا من اللغط والغموض حول الموضوع إذ يصبح من المنطقي إثارة السؤال من أين سوف تأتي اللجنة بالمبالغ الكافية للبناء. والحقيقة الرابعة تتعلق بالشخص الذي ارتبط المشروع به, وهو الإمام فيصل عبد الرؤوف والجدل الذي ثار حول توجهاته وميوله. وحسب المعلومات المتاحة, فقد ولد في الكويت لأبوين مصريين وتلقي تعليمه في انجلترا وماليزيا ومصر. وفي سن السابعة عشرة بدأ إقامته في أمريكا, وحصل علي شهادة البكالوريوس في الفيزياء من جامعة كولومبيا التي تعتبر من أفضل الجامعات الأمريكية. وفي عام1983 بدأ في إمامة الصلاة في مسجد قريب من برج التجارة العالمي. وهو معروف بآرائه المعتدلة والمتسامحة, ففي الأسبوع التالي لأحداث9/11 دعا مجموعة من رجال الدين المسيحيين واليهود إلي إقامة صلاة مشتركة للتأكيد علي قيمة التسامح بين الأديان, وفي عام2004 أصدر كتابا جوهره أنه ما هو صحيح عن الإسلام هو صحيح عن أمريكا, وأن مبادئ الإسلام هي ذات المبادئ الأمريكية الموجودة في الدستور والقانون, وأنه لا يوجد في الشريعة الإسلامية ما يتعارض مع أن تكون مواطنا أمريكيا جيدا, ولهذا أوفدته وزارة الخارجية الأمريكية إلي الخارج أكثر من مرة كان آخرها هذا الصيف لشرح أوضاع الإسلام والمسلمين في أمريكا. وبالرغم من ذلك, فإن أعداء الشيخ شوهوا أفكاره بشكل حاد, وقدموه في صورة المتعصب الذي يخفي اتجاهاته الحقيقية وراء ستار من الحديث العذب, ووصفته إحدي الجرائد بأنه ذئب في ثياب حمل. هذه الأفكار تستحق منا التفكير والاعتبار, وكثير مما يحدث في بلادنا من أقوال وأفعال تكون له تأثيراته السلبية المباشرة علي صورة الإسلام ووضع المسلمين في الدول الغربية, والتصريحات التي يطلقها البعض في هذه العاصمة العربية أو تلك سرعان ما يتم نقلها وترويجها علي النحو الذي يعمق مناخ العداء والكراهية للإسلام والمسلمين.. وهذه أوقات تحتاج منا إلي العقل والتدبر.