تنتمي المجتمعات المختلفة الي ثقافات مناظرة تربط بين أفرادها, ويكاد المهتمون بهذا الأمر يجمعون علي أن السبب الذي يكمن وراء ذلك هو أن كلا من هذه الثقافات تشكل اسلوب الحياة والفكر في المجتمع الذي تجسد حالة الانتماء قيد الحديث- وذلك من حيث أن هذا الأسلوب يتخذ مساره في ضوء وحدة التوجهات التي يعيشها المجتمع ويعايشها, وبناء علي وحدة الظروف التي يتعرض لها ويجد نفسه مدفوعا الي التعامل معها والمشاركة في نتائج هذا التعامل ايجابا او سلبا. وفي سبيل الترسيخ المطلوب لهذه الثقافة يتبني المجتمع عددا من القيم يسعي الي اشاعتها بين افراده بهدف التوصل الي ما يمكن ان يحققه في هذا المجال. وفي هذا السياق فان المصريين القدامي لم يكونوا بعيدين عن مجريات الأمور, فقد حرصوا علي تحديد مواقفهما ازاء جوانب الانتماء التي وجدوا فيها ما يمكن ان يؤثر علي ثقافتهم. ومن بين هذه الجوانب ما ادخلوه ضمن دائرة الالزام والالتزام بدرجات متفاوتة: مثل المسائل المتعلقة بأمور الدين والقانون والتقاليد. هذا بينما نجد علي الجانب الآخر ما لم يكن ملتزما, وان رأوا في مراعاته ما يمكن أن ينعكس علي حياة المجتمع بالقدر المطلوب او المريح من الاستقرار. ويعرف ما وصل الينا في عمومه في العصر القديم تحت اسم النصائح وان كان المصريون قد اطلقوا عليه تسمية التعليمات. واقدم هذه التعليمات ما تركه لنا الأمير هارد جيديف ابن الملك خوفو( القرن26 ق. م) وكانت موجهة الي ابنه آو إيب رع. وتشير هذه النصائح المصرية في اساسها الي نوعين من التصرف: أحدهما يحث الفرد علي التعامل المثالي من جانبه مع ذاته, توصلا الي ما يمكن ان نسميه بداية طيبة لتكوين الانسان المصري. والنوع الآخر من التصرفات المذكورة يخص تعامل الفرد مع الآخرين بما يؤدي الي ظهور مجتمع متميز في علاقاته ومن بين نصائح النوع الأول ما قدمه آني, الذي كان يشغل موقع الكاتب في قصر الملك نفرتاري, زوجة الملك احموزي( القرن16 ق.م) وهذه المجموعة من النصائح موجهة من الكاتب الي ابنه خنس حتب, واعرض هنا بعض سطورها. لاتدخل بيتا غير بيتك حتي يأذن لك صاحبه ويرحب بك.. ابتعد عن الشخص العدواني, لاتتخذه رفيقا لك.. لاتجلس بينما يقف من هو أكبر منك سنا او أرفع منك مقاما.. لاتفتح قلبك لمن هو غريب عنك, فقد يستخدم ما قلته في غير مصلحتك, انه بذلك يكرر حديثك بينما تضاعف انت عدد اعدائك.. لسان المرء قد يدمر حياته اعط أمك ضعف ما كانت تعطيك( عندما كنت أصغر), وتحملها كما تحملتك( من قبل), لقد كنت حملا ثقيلا( قيل ان تولد) وبعد أن ولدتك, ولكنها لم تتخل عنك.. في اثناء نموك كان يخرج من جسمك ما يدعو الي الاشمئزاز, ولكنها لم تبد اي اشمئزاز منك.. لقد كان ثديها في فمك ثلاث سنوات.. وعندما أرسلتك الي المدرسة لتتعلم الكتابة كانت ترعاك كل يوم.. لاتفعل ما يجعلها توجه اللوم اليك حتي لاترفع يديها( بالشكوي منك) الي الله فيسمع الله شكواها. لاتتحكم في زوجتك في منزلها وانت تعرف مقدار كفاءتها.. لاتقل لها أين هذا الشيء, احضريه( لي) بينما( انت تعرف انها) وضعته في مكانه الصحيح.. دع عينيك تلاحظها في صمت, وعندئذ تدرك مهارتها. ان وضع يدك في يديها متعة ولكن الكثيرين لايعرفون ذلك. ومن بين نصائح النوع الثاني الذي يتناول علاقة الفرد بالمجتمع ما قدمه يتاح حتب, وزير الملك ايسيسي( القرن23 ق. م) وقد جاء فيها لاتكن مغرورا حين تتحدث عن قدر معرفتك, استمع الي كل من الجاهل والحكيم.. اذا كنت شخصا موضع ثقة وارسلك شخص ذو موقع كبير الي شخص آخر ذي موقع كبير فبلغ رسالته كما قالها. اذا كنت وسط مجموعة من الناس, اكتسب من ترغب في تأييدهم لك عن طريق ثقتهم بك.. لاتشوه سمعة احد, ولاتستمع الي من يفعل ذلك.. لاتنقل من الأخبار إلا ما رأيته بنفسك, وليس ما سمعته من غيرك.. واذا لم يكن الأمر ذا قيمة فلا تقل شيئا.. اذا كنت في موقع القوة, فاحصل علي الاحترام من خلال معرفتك ومن لطف حديثك.. لاتكن متعاليا حتي لاتتعرض للاهانة.. تحدث برويه حتي تقول أشياء ذات قيمة.. لاتبالغ في صمتك حتي لايوبخك أحد.. اذا كنت من أهل الثقة وجلست في مجلس يرأسه رئيسك, فركز علي الحديث المتميز. والي جانب هذين الدفترين من النصائح المصرية, فقد كانت هناك اخري يعود أقدم ما وصل الينا منها الي القرن السادس والعشرين علي نحو ما اسلفت. وهنا اضيف ان أقدم ما تبقي لدي اليونان في هذا الشأن هو ما تركه الشاعر اليوناني الملحمي هزيودوس في ملحمته الأعمال والأيام ففي هذه الملحمة نقرأ النصائح التي قدمها الشاعر لأخيه يرسيس حتي يستأنس بما جاء فيها في ممارسة حياته. فاذا عرفنا ان هز يودوس عاش في القرن التاسع ق. م اصبح بامكاننا ان نقول ان مصر سبقت في احد فروع النشاط الفكري, بما يراوح عشرين قرنا, امة كانت من رواد الحضارة ان شيئا قد غاب من حياتنا ويبقي السؤال: هل غابت النصائح ام غاب الناصحون؟