لا يكاد المرء يعرف من أن المساحات الثرية والرحبة يمكن تناول الحضور الخصب والمؤثر لمحيي الدين اللباد رسام الكاريكاتير الكبير والجرافيكي البارز, وصانع الجمال ومنتج المعرفة, والمهني رفيع التكوين والخبرة والإنتاج. الصديق الفنان والرسام الأكبر, محيي الدين اللباد شكل حالة استثنائية في تاريخ الصحافة والثقافة المصرية من حيث مسار حياته كرسام كريكاتير ومصمم للكتب وأغلفتها والمجلات علي اختلافها. محيي اللباد ينطبق عليه الوصف الكلاسيكي والشائع في الكتابة العربية رجل نسيج وحده, أو مثقف من طراز خاص, وهذا الوصف يكاد ينطبق تماما علي حالة اللباد المثقف والفنان. حيث نجد الحضور الجمالي والفلسفي واللغة البصرية في تواشج وتناغم قل أن تجد له نظيرا أبناء جيله وآخرين. في لغة الرسام الأكبر, حيث السلاسة والوضوح النظري والفلسفي والتطبيقي, والتدفق السيال بالأفكار الموحية والخلاقة. في مقابلاته العادية, ووسط صحبه وتلاميذه أينما حل كان كبير المكانة رفيع المقام وموضوعا للاحتفاء به. مثقف بارز يشيع بين أصدقائه المعرفة المتألقه والخبرات المهنية والحياتية والإنسانية غير المألوفة. كانت تقديراته للآخرين تتسم بالموضوعية والصرامة الشديدة وروح الإنصاف, لا يجامل قط في تقويماته للآخرين ككتاب أو روائيين أو قصاصين أو شعراء أو مسرحيين أو أبناء مهنة أو رسامي كاريكاتير, أو صحفيين, أو فنانين تشكيليين. لا مكان لمجاملات لا معني لها في تقويم إنجاز ما لا يستحق, وهذا شأن المهني والمثقف والرسام الكبير. كنت أراه يعتصم بالصمت في حال ما إذا كان ثمة ثرثرة فاقدة للمعني, أو بعضهم يطرح لغوا يلوث ذائقته اللغوية الأنيقة والمترفة بالمعاني العميقة أو يشوش علي عقله الكبير, مثقف وفنان ومهني بالغ التميز أحتفي دائما بالموهوبين والاستثنائيين. مولع بالموسيقي الرفيعة أيا كانت مصادرها وانتماءاتها من الكلاسيكيات إلي الجاز, والموسيقي الشرقية, والشعبية, والغناء. معرفة موسيقية ثرية وعميقة, وفي ذات الوقت زائقة مرهفة. والأهم.. الأهم إطلاع عميق علي السرديات علي اختلافها من شعر ورواية وقصة.. إلخ, وعلي مسارات تطورها وعيونها وعلاماتها الرئيسة بعضهم يقف عند قراءاته الأولي, وبعضهم الآخر سيتوقف عند عناوين أعمال وأجيال في التطور الأدبي, ولكن محيي الدين اللباد كان يقرأ ويتابع ويمتلك حسا نقديا وأدبيا رفيعا, وأكاد أقول إنه تابع عديد الأجيال حتي التسعينيات ومابعد, والذين شكلوا ولا يزال ظاهرة في السرديات العربية ما بعد الحداثية. من المتابعة للسرديات إلي الفنون من الرسم للنحت للتركيب.. إلخ كانت متابعة مبدع كبير ومتخصص بارز. شكل محيي اللباد حالة في فنون الكاريكاتير والجرافيك والخط وتصميم الكتب وأغلفتها. وأستطيع أن أقول وبصراحة, كان من أكثر الفنانين اتصالا بما يحدث في عالمنا من تطورات ولاسيما الفنية والبصرية, في حين لم ينقطع قط عن تراثنا الجمالي والبصري المصري. خطوط محيي اللباد الكاريكاتيرية كونية بامتياز وتعتمد علي الرسم الفكرة, وربما من أبرزها رسوماته الكاريكاتيرية في اللوموند ديبلوماتيك في الطبعة العربية التي كان يرأس تحريرها صديقنا المرحوم سمير قصير والصادرة عن دار النهار اللبنانية. كانت رسوماته وتصميمات الكتب وموتيفاتها مصرية وعربية الجماليات, وما بعد حداثية التوجه والمنطق الداخلي في توليف بالغ التميز. معلم كبير, وعمود من أعمدة صناعة الكتاب, حيث أعاد إحياء بعض تقاليد تصميم الكتب الجميلة في التقليد المصري والعربي انطلاقا من إرث الكتب المخطوطة, أو المطبوعة علي الحجر. أغلفة محيي اللباد كانت كتابا علي الكتاب, أو الكتاب الآخر, أو ما يطلق عليه بعضهم عتبات النص في بعض التحليل النقدي للأعمال السردية. شيخ أكبر من شيوخ الكاريكاتير والجرافيك وصناعة الكتب اكتملت علي يديه القدرة علي المزج الخلاق بين المهنية وتقاليد الصناعة, وإبداعات الموهبة الخاصة. إنسان رقيق وعذب وخاص جدا, لا يملك أصدقاؤه ومحبوه وتلامذته إلا محبته والاعتزاز به أيما اعتزاز, لأنه مصري, رغما أن محيي اللباد كان ابن عديد المؤثرات الفنية والسياسية والإيديولوجية والثقافية, إلا أنه لم يخضع أدواته وإبداعاته للشعاراتية, علي الرغم من إيمانه أن الفن في الأساس وظيفة والكلام عن الجمال للجمال هو كلام فاضي ويردده الناس دون وعي.. فالفن منذ بدء الخليقة هو من أجل تأديه غرض أو وظيفة ثم يأخذ قيمته الجمالية لاحقا من اصطلاح مجموعة كبيرة من البشر علي أهميته وضرورته وليس بالضرورة أن تكون موافقا عليه, فالجمال يكون في قوة المنطق والقدرة علي أداء الدور والإبداع وفي المراحل الانتقالية تسقط وسائل الاتصال القديمة ويصبح من الضروري ابتكار وسائل جديدة, كما قال في حوار ذات مرة. محيي اللباد كان يلتقط بعض الموتيفات أو الأشياء أو التفاصيل الصغيرة في الحياة اليومية, ويحولها إلي علامة دالة, وإلي دالة جمالية, وذلك لأنه كما قال الإنسان يتأثر جدا بالعلامات البصرية.. مثل زجاجة كوكاكولا.. علبة كبريت.. ماركة سجائر.. أفيش سينما.. مانشيت جريدة.. إلخ فهذه الأعمال تحفر نوعا من العلامات في الذاكرة.كان يحول التفاصيل إلي جمال خالص مترع بذاكرة بصرية وزمنية ومحمولات.. إلخ. حصل علي جوائز عالمية, ونال عن كتابه كشكول الرسام جائزة التفاحة الذهبية1989 من بينالي براتسلافا لرسوم كتاب الأطفال في سلوفاكيا وترجم الكتاب إلي عديد اللغات. وسلسلة كتب مهمة هي نظر ساهم بدور بارز في إحياء ثقافة بصرية وجمالية رفيعة, تعتمد علي جماليات التقشف في مواجهة سوقية ثقافة القبح وضد جماليات ثقافة الاستهلاك الوحشي للأثرياء. كان حارسا علي قيم الجمال المصري في مصادرها الأكثر ثراء وذات الروح الأنسانوية العميقة والمنفتحة علي عالمنا. محيي الدين اللباد ساهم في محو أمية العيون كما قال كميل حوا وكامل زهيري عن حالة ثقافة العيون العربية والمصرية المترعة بالأمية البصرية, وعشق القبح, وهو ما كان المنجز الإبداعي لمحيي اللباد يحاول قهره وتغييره.رحم الله الأستاذ الصديق الكبير, بقدر ما أعطي من إبداع للناس في بلاده وعالمه, وسيظل حاضرا في حياتنا يطارد القبح ويصطاد الجمال ويبدعه.