أحدثت سرقة زهرة الخشخاش من متحف محمد محمود خليل وحرمه بالجيزة.. صدمة كبيرة في الرأي العام.. وكثر الحديث حول اللوحة.. ولعل هذا يعقبه إفاقة من أجل الوعي بمعني الفن التشكيلي.. أرفع الفنون وأقدمها.. وأقلها حظوة لدي الجمهور.. خاصة انه لم يزر المتحف في يوم السرقة سوي11 شخصا... أقل القليل من العاملين به.. هذا المتحف الذي يضم روائع الابداع في الفن الاوروبي. وصاحب زهرة الخشخاش فنسنت فان جوخ ترك ثروة فنية تقدر بسبعمائة لوحة وألف رسم.. يوازيها ثروة أدبية من الرسائل.. تجاوزت ثمانمائة رسالة صدرت في ثلاثة مجلدات.. كتب أكثر من ستمائة منها لأخيه الأصغر ثيو أقرب الناس إليه.. وتراوحت بين الرسائل القصيرة الي التي تمتد في عشر صفحات. ورغم أن حياته لم تتجاوز37 عاما إلا أنها كانت مفعة بالدراما.. صاخبة بالأحداث وسحر الفن.. مسكونة بالقلق والتوتر.. عاصفة هائجة.. عامرة بحبه للبشر في كل مكان.. سيطرت فيها الحساسية الشديدة وجموح العاطفة. تعرف جوخ علي الفن لأول مرة وتوثقت صلته به.. ولكن حدث أن آثارت انتباهه فتاة تدعي أرسيولا وقد أحبها وجعل لها مكانة كبيرة في خياله.. ثم قرر مكاشفتها بلواعج حبه.. فما كان من الفتاة إلا أن هزأت به وأخبرته أنها مخطوبة فلما ألح عليها.. صفقت الباب في وجهه!! أدت هذه الصدمة بفان إلي نوع من الهوس الديني.. فقدم استقالته وقرر أن يعمل واعظا بين عمال المناجم.. في ذلك الوقت كان مستعدا أن يهب نفسه للناس كل الناس.. وفي أحلك سراديب الفحم الأسود.. شارك العمال أقسي ظروف الحياة وراح يضيء لهم شموع الأمل والرجاء ويمنيهم برحمة السماء.. كل هذا في مبالغات شديدة جعلته في نظر البعض مارقا علي التعاليم الدينية.. وكان وصل السابعة والعشرين.. وقد عاد عاطلا منبوذا.. ولكن بتشجيع من أخيه ثيو ومساعدته له ماليا من دخله الضئيل عكف جوخ علي الرسم.. وقد كان جوخ في عراك دائم مع صديقه جوجان صاحب لوحة الحياة والموت بمتحف محمود خليل.. والذي كان يسخر منه وينفعل عليه كثيرا.. حتي جاء يوم وهدده بموسي الحلاقة.. وهذا مما عمق من أزمته.. حيث لم يجد الفتاة التي تحبه وتحيطه برعايتها فكانت عنده نزعة مكبوتة للحب.. حتي أنه عندما التقي بفتاة نيل وقالت له علي سبيل المزاح: كم هي جميلة أذنك يافنسنت؟!.. صدق كلماتها.. وفي اليوم التالي قطع أذنه وأرسلها إليها.. وقد أثر هذا الحادث علي صحته تأثيرا كبيرا.. ولكنه استرد عافيته بعد علاجه لبضعة أيام تحت رعاية الطبيب وكان ثيو قد هرع إليه وأحاطه بحنانه.. ورغم هذا انهارت أعصابه. وفي ليلة من ليالي شهر يوليو عام1890 خرج إلي حقل مجاور وجلس تحت شجرة ثم اطلق علي نفسه الرصاص, وكان قد ترك رسالة لاخيه يقول: لقد جازفت بحياتي في سبيل الفن.. ومن أجله أوشكت أن أفقد رشدي.. وفي النهاية لن يتحدث عنا سوي لوحاتنا!!.. وبعد يومين قضي نحبه.. ولم تمض سوي ستة أشهر حتي لحق به أخوه ثيو وكأنه لم يطق فراقه.. لقد كان فنانا عاطفيا حتي أنه كان يرسم زوج الأحذية وكأنهما زوج من الصديقين العزيزين. ورسم حقول القمح الصفراء والمقاهي ومقعدة القش وغرفة نومه ووجوه متعددة, كما رسم نفسه في صور كثيرة. وما أجمل لوحته زهرة الخشخاش التي تهمس بالأصفر وتتوهج بالأحمر الناري.