زينة رواية جديدة ومثيرة, لزعيمة الحركة النسائية في مصر, وربما في الوطن العربي, الدكتورة نوال السعداوي التي تشارف الثمانين من عمرها, ترفع بها سقف حرية الابداع, وان كانت كعادتها تجرح حس القراء المحافظين بيد انها تخطو خطوة اخري جسورة في تحقيق مشروعها الطويل, لتحويل خطابها الايديولوجي الصادم إلي أعمال سردية, تجسد مبادئها, وتطرحها عبر نماذج مشبعة بروح الشك والتمرد والثورة, ترتطم دائما بجدران السلطة المدنية والدينية, وتشتبك مع المؤسسات البطريركية في الاسرة والمجتمع في صراع عنيف, ينتهي إلي مجرد الحلم بالحرية والعدل, بديلا للتحول التاريخي, الطريف ان شخصية زينة التي تجعل منها ايقونة مثالية في هذه الرواية ليست بطلتها أو راويتها, لا نستمع إليها, بل تقوم استاذة جامعية وناقدة ادبية تدعي بدور الدامهيري بهذا الدور, فتعجز عن تحقيق ذاتها أو حتي كتابة سيرتها, فإذا تمكنت في النهاية من الهروب من بيت الزوجية الخانق وحملت معها اوراقها تبينت ان الرجل الذي وهبته عمرها كارهة قد سرق روايتها ذاتها ونسبها إلي نفسه. اما زينة فهي نموذج غريب كان لها مقلتان كبيرتان تشعان ضوءا ازرق إلي حد السواد الداكن, بلون عين الليل, تنفذان مثل حد السكين إلي البؤرة الخفية في عمق الاحشاء, ليس لها أب ولا أم, تنسب إلي المرأة التي عثرت عليها, فتسمي زينة بنت زينات, ليس لها بيت ولا غرفة نوم, ليس لها شرف أو عذرية تخاف علي ضياعها, ومع ذلك فقد تميزت منذ طفولتها, كانت مدرسة البيانو تمسك اصابعها في يدها, ترفعها عاليا وتقول أنها خلقت للموسيقي, فهي موهوبة, وعندئذ تشتد اللمعة في عينيها السوداوين حتي يبدو انها دموع, لكن تشرق عيناها بابتسامة تضيء وجهها الشاحب ستتكرر هذه الأوصاف كلما جاء ذكرها في الرواية بعد ان كبرت واصبحت مغنية, تجمع اقرانها من اللقطاء لتملأ بأنغامهم الصادحة وحريتهم المطلقة فضاء الحياة وتفتن أكثر الناس تشددا وتعصبا, أمير الجماعة السلطوي الشهواني, الذي تنكسر عينه امام اشعاع عين زينة وينفطر قلبه تحرقا إلي القرب منها دون جدوي, وستظل خاصية الرواية الاسلوبية البارزة هي تكرار أوصاف الشخوص والمواقف بالكلمات ذاتها مما يعطي السرد مذاقا ملحميا وإن تركه يدور في دوامات مفعمة بالإثارة. ضمير المتكلم: تهدي الكاتبة روايتها إلي اطفال الشوارع, باعتبارهم كواكب تقشع الظلام, تملأ الارض بالضوء وتغير العالم, ولست ادري هل تمجدهم أم تأسي لمصائرهم, فتنظم سطورا من الشعر البسيط تطلقها علي لسان زينة في حفلاتها المتوهجة بالفن, وكأنها تعتبر الفن لقيطا في المجتمع ايضا, لكن صوت الرواية الاساسي بدور تكتم في احشائها سرا دفينا موجعا, تراودها احلام المراهقة وهي تمشي في المظاهرات تهتف: يسقط الظلم, تحيا الحرية, يحيا الحب تستسلم للحب والحرية تذهب مع صديقها نسيم عقب المظاهرة إلي بيته, يعاهدها علي الزواج قبل ان يلقي مصرعه في السجن, يترك في احشائها جنينا لاتجرؤ علي مواجهة الحياة به, تطاردها صورته الباسمة في اللفائف وهي تلقي به وديعة عند خادمتها زينات كي تتبناه, هو نفسه زينة بنت زينات, تطاردها الاشباح والخيالات, تراودها فكرة الرواية, تحبل بها في الليل مثل الجنين, يداعبها اصبع ابليس الصلب مثل قضيب الحديد تطلق علي بطلة روايتها اسما مشتقا من اسمها بدريه فتهمس لها يا بدور ثمن الحرية غال, الكاتبة لاتأتي بدون الحرية, اكسري قيودك يا بدور. اخرجي من سجنك مدي يدك لتأكلي من الشجرة المحرمة, ان اكلت منها فلن تموتي, المعرفة تحيي ولاتميت هكذا توظف الكتابة قصة الخلق والخطيئة الأولي وتفسرها, وتمعن في ذلك لكن بدور تريد ان تملك شجاعة البوح, تريد ان تنفض عن قلبها عبء الكتمان, تريد ان تشفي نفسها من المرض المزمن, ان تمشي إلي زينة بنت زينات, تحتضنها, تعترف لها انها أمها لكن بدلا من ان تفعل ذلك تلجأ إلي كتابة سيرتها, إلي محاولة التعويض الابداعي عن فشل الحياة الحقيقية, تظل بطلتها بدرية تطاردها, زوجها يسرق أوراقها في الليل, يكشف سرها دون ان تظهر عليه علامات ذلك, بل يجلس معها في الصباح لاحتساء القهوة كأن شيئا لم يكن, يتبادلان الخديعة والنفاق, هو ايضا كاتب شهير له عمود يومي بصورة في أكبر الصحف, مقرب من السلطة وممثل لها, خادع في حياته الخاصة, يخونها كل يوم ويكذب عليها, بينما هي تكذب عليه سوي تلك المرة الوحيدة, اسمه زكريا الخرتيتي يكتب في عموده بالجريدة عن تحرير المراة, بينما لايري مكانا لها سوي تحت زوجها في الفراش, وان ارتفع قدرها وحملت لقب الدكتوراه والاستاذية أو حتي الاستاذية هذه هي البنية الاجتماعية الصلبة المعتمدة في رؤية المؤلفة للحرية والحب. لكن بطلتها كما اخفقت في الاحتفاظ بثمرة حبها لابد ان تخفق في اكمال ابداعها, في اتمام روايتها, حتي بعد ان تهرب من بيت الزوجية, مثل نورا في مسرحية ابسن بيت الدمية وتبيت علي مقعد حجري في الشارع, تتحسس حقيبتها التي اودعتها تحتها فلا تجد اوراقها في لفتة رمزية معبرة عن هذا الفقدان الختامي. لكن اللافت في هذه الرواية هو دخول النقد الادبي إلي ساحة حروب الكاتبة ضد كل السلطات فبطلتها, والمفروضة انها ناقدة تري فيه تطفلا علي الادب الحقيقي مثل الديدان الشريطية, فالنقاد يحاولون الوصول إلي الاضواء علي طريق مسح احذية المبدعين, ومن الطبيعي ان تشعر مبدعة فاشلة مثل بدور بالخشية من سطوة النقد, لانها تمثل دورا في رواية ايديولوجية, مشكوك في قيمتها الابداعية وفاعليتها الجمالية, فتبادر بخصومة من يمكن ان يحاسبها علي هذه الهشاشة, وان غفرلها جرحها لمشاعر القراء بما تثرثر به من شكوك بدعوي النضال من أجل الحرية والحب. المزيد من مقالات د. صلاح فضل