من يحاور عميد معلمي مصر الشيخ إبراهيم علي مصطفي نصار(100 سنة) يستشعر من الوهلة الأولي أنه يحفظ عن ظهر قلب تفاصيل دقيقة لتاريخ مصر في المائة عام الأخيرة. فمعلم الأجيال الذي يستعد في أكتوبر القادم للاحتفال مع ثمانين أبنا وحفيدا بإضاءة الشمعة رقم مائة من عمره السعيد لم يكن مجرد شخصية عادية عاشت مثل هذا العمر, بل كان معلما نابغة تلقي العلم علي يديه الآلاف ومنهم من اعتلي المناصب المرموقة وكان أيضا سياسيا محنكا حيث كان من رموز حزب الوفد القديم فتحت عينيه علي ثورة1919. في بداية حديثه يقول الشيخ إبراهيم نصار: أنا من مواليد مدينة قوص بمحافظة قنا في25 أكتوبر1910, ومدينة قوص لها طبيعة خاصة بحكم تاريخها العريق كعاصمة دينية للدولة الاسلامية في العصور الاسلامية الزاهرة توارث أهلها تثقيف أبنائهم وتنشئتهم النشأة الدينية, حفظت القرآن الكريم بأحكامه علي يد العلامة الشيخ حامد خميس وأنا في الخامسة عشرة إلي جانب دراستي العادية ثم التحقت بمدرسة المعلمين عام1927 وتخرجت فيها عام1930, وانخرطت في سلك التدريس لمدة أربعين عاما متنقلا بين أكثر من عشر مدارس بشتي مدن وقري محافظة قنا, ومترقيا السلم الوظيفي حتي وصلت إلي ناظر مدرسة وأحلت إلي المعاش. * ماذا عن أبنائك وأحفادك؟ { يجيب رجل القرن: أولا أنا تزوجت زوجتي الأولي رحمة الله عليها في عام1931, ورزقني الله بابنتي فوزية عام1933 أي أنها تبلغ من العمر الآن78 سنة, ثم ابنتي فايزة(75 سنة) ثم سعدية(73 سنة), ويوسف(71 سنة) وكان يشغل منصب مدير عام التأمينات الاجتماعية بقنا, وكمال(62 سنة) وخرج علي المعاش بدرجة وكيل وزارة المالية, أما رقية فهي الوحيدة من أبنائي وبناتي التي سلكت مجال التدريس وهي الآن بدرجة مدير عام وللعلم التحقت بالتدريس عشقا لأنها خريجة كلية العلوم بأسيوط وكانت من أوائل دفعتها وتم تكليفها رسميا بالعمل كمعيدة إلا أنها فضلت العمل بالمدارس, ثم الدكتور محمود وهو آخر العنقود وهو أستاذ كيمياء النباتات الطبيعية بالمركز القومي للبحوث(55 سنة), أما أحفادي فعددهم25 حفيدا وأبناؤهم46, وأنتظر أول حفيد لحفيدتي سوسن حسني التي زوجت ابنها لإبنة ابني كمال وأنا أتشوق لتلك اللحظة في فبراير المقبل إن شاء الله. * وماذا عن وجهة نظرك في التعليم زمان والتعليم الآن؟ { من ناحية الامكانيات وتكنولوجيا التعليم الآن أفضل بكثير, فالامكانيات قديما كانت محدودة للغاية وبدائية ولا تقارن بأي حال من الأحوال بما نشاهده الآن, كما أن التخصص يبرز كسمة أساسية مع التطور الحالي للتعليم, وحتي خروجي علي المعاش عام1970 لم يكن قد طرأ علي الوسائل التعليمية أي تطور, وهذا من المفروض أن يكون في مصلحة التقدم في العملية التعليمية, أما زمان فكان مدرس الفصل يدرس كل المواد: عربي وحساب وجغرافيا وتاريخ وكان يحرص علي أن تكون لغته العربية سليمة وهو يدرس باقي التخصصات فلا يخطئ مثلا في النحو وهو يدرس حصة جغرافيا أو تاريخ فهذا يعد عيبا خطيرا, لذا كانت مدرسة المعلمين تحرص من البداية علي تخريج مدرسين أكفاء علي درجة عالية جدا, أقوياء في تخصصهم تطمئن علي الأجيال من خلالهم, وهنا واقعة طريفة أذكرها بطلها الشيخ محمود عيسي هواري رحمه الله, وكان زميلي في مدرسة المعلمين, وفي أدائه للامتحان النهائي عام1930 أجاب عن الامتحان كاملا بدون أخطاء, ولكن المصحح اكتشف أنه نسي أن يكتب الألف في اسمه الثالث فكتب هوري بدلا من هواري فكان ذلك سببا في رسوبه اذ اعتبر المصحح أن المدرس يجب أن يكون في غاية الدقة. * ماوجه المقارنه بين المدرس زمان والمدرس الآن؟ { يجيب الشيخ ابراهيم نصار: فرق شاسع وليس فقط مجرد اختلاف في الزي حيث كان المدرس زمان يفضل لبس العمامة أو الطربوش و القفطان و الجبة أو الكاكولا, بل أيضا في هيبة المدرس, فزمان كانت للمدرس مكانة وهيبة في المجتمع, وعندما كان التلميذ يشاهد مدرسه يسير في الشارع يسارع بالاختباء, بل لا يفضل التلميذ أن يمشي في شارع يسكن فيه مدرسه, وهذا ليس بسبب الخوف بل الاحترام, والآن نسمع عن مدرس يدخن السجائر مع تلميذه, وطالب يضرب مدرسه, وكانت الحصة في حياة المدرس والتلميذ مقدسة لا يخرج المدرس منها دون أن يستوعب التلاميذ الدرس جيدا, وإذا شعر أن تلاميذه لم يستوعبوه يظل في حالة قلق حتي يعود إليهم في اليوم التالي, وكانت الحصة كافية تماما ليؤدي المدرس رسالته والتلميذ لاستيعاب دروسه, ولم يكن هناك ما يسمي بالدروس الخصوصية التي أعتبرها ظاهرة العقود الأخيرة, والتي أشير إليها بأصابع الاتهام بأنها أهم أسباب فقدان المدرس لهيبته ومكانته الرفيعة في المجتمع, وقد نلتمس العذر لبعض المدرسين لضعف الراتب الذي يتقاضونه والذي لا يفي بحاجة أسرهم مع الارتفاع المطرد في الأسعار, وإن كان هناك مزايا جديدة مثل الكادر وغيره, ولكن أري أن يأخذ وزير التربية والتعليم بزمام المبادرة ويعيد النظر مرة أخري في رواتب المدرسين بما يحقق لهم حياة كريمة. * ولكن ماذا عن أول وآخر مرتب تقاضاه معلم الأجيال؟ { يضحك ويجيب: أول راتب تقاضيته كان اربعة جنيهات وكان تعييني بقرية( الريانية) غرب قامولا بالاقصر وكانت رحلة طويلة وشاقة أسلكها فجرا من مدينة قوص إلي المدرسة والعودة, وآخر مرتب كان1970 عند خروجي علي المعاش ناظر مدرسة37 جنيها, وكان يكفي لمعيشة أسرتي وتعليم أولادي وبناتي, وما بين الفترتين انتقلت بين مدارس كثيرة بقري الشعراني والحمر والجعافرة وكلاحين ابنود وقوص, وكانت الزيادات التي تطرأ علي المرتب بسيطة.