قبل زمن طويل, عاش واحد من الفرسان المتجبرين في أحد أقاليم ألمانيا, إذ سرق, واستولي علي أرض شاسعة, وبني له حصنا رائعا, واستجلب رجالا مسلحين لخدمته, كانت له زوجة جميلة وفاضلة تحددت خارطة وجودها الإنساني نهارا بالتدبر الصامت لأعمال المطبخ والمنزل, وما يتبعها ولا يتجاوزهما. وفي المساء تنطلق إلي الشرفة تترقب عودة زوجها من أسفاره, لا تعتصم بموقع محدد, إذ تبدأ وقائع احتفائها من الشرفة, بأن تلوح له من بعيد بمنديلها المطرز بالذهب, وتسرع إلي باحة الحصن لاستقباله, ثم ترافقه مع وصيفه إلي غرفته, وهناك يضطجع السيد الزوج علي فراشه, ويمد رجليه إلي حرمه لتخلع له الحذاء. تري هل يصدر الزوج في فعلته تلك عن حاجة نفسية تحتم اكتمال طقس الاحتفاء به, متوجا بذلك المشهد الذي يؤكد استتباب نوع من التفاضل القيمي للرجل؟ تري هل يعد ذلك نوعا من التسويق اليومي لذلك التفاضل القيمي للرجل, يضخم من حجمه, ويبرهن علي اجتياحه لكيان المرأة ترسيخا لمكانته؟ تقترب الزوجة بجدية الخادمة المطيعة, وتخلع حذاء زوجها, الذي يكون وفقا للفصل السنوي, ملطخا بالتراب والطين, أو ملطخا بالثلج. تري هل لدي الزوجة مفهوم عام أو خاص بوصفه قناعة, أو محض استسلام خانع, يحكم علاقة وجودها كزوجة في سياق مقتضيات واقعها, تبريرا لقبول تلك المقتضيات؟ كان وصيف الزوج المكلف بالعمل علي خدمته, يقف كل مرة متفرجا, يكتسحه غيظ مكظوم لرفضه الإقرار بخضوع الزوجة وانخذالها بقبولها خلع الحذاء. إن هذا التكرار فجر لدي وصيف الزوج تصاعد موجة من الأحاسيس التي استشعرت ظلم التفاوت المطلق بين الرجل وزوجته, فاستنكرته, ودفعت الوصيف إلي الاجتراء عدة مرات, متوسلا إلي سيدته أن تترك له عناء خلع حذاء سيده, إذ ذلك من مهام عمله المأجور عليه, ولا يشكل بالنسبة إليه ضيرا, وإن كان لايليق بها, لكن توسلاته كانت تمر دون صدي, أو حتي مجرد استشعار منها بأن ما تفعله يشكل أمارة استنقاص تلاحق الحاضر والمستقبل معا. بالطبع أحزن الوصيف ذلك الإذعان, وأوجعه غياب الإحساس بالانتقاص. ولأن الإنسان عموما لا يقبل بحدود الموروث الاجتماعي والبيولوجي, خاصة عندما يفتقر إلي الإنصاف, فيسعي إلي تحقيق فرص الارتقاء, باصطناع الظروف التي تمكنه من تخطي حدود ذلك الموروث المجحف, تطلعا إلي الإنصاف لتحرير الوجود الإنساني من أسره, لذا لم يكن بمستغرب أن يقضي الوصيف أياما غارقا في التفكير بقصد واع, وبإمعان مشحون بأحاسيس تخاصم جموح الإجحاف, مستهدفا تحقيق إنجاز مثمر لعقل خلاق, يبدل الظروف تخطيا لاختلال الإنصاف. احتجب الوصيف عن الأبصار, لكنه شوهد يسهر الليل كله حتي الصباح في غرفته منكبا علي عمل أبقاه سرا. بعد عدة أيام ظهر وقد أشعلت الغبطة من عينيه, دلالة أن سعيه تكلل بالنجاح. دوت أبواق الحصن معلنة عودة الفارس, الذي وصل مصابا بالزكام, فطلب إلي زوجته أن تأتيه بعلاج, أسرعت الزوجة إلي المطلوب,فصحبه الوصيف إلي مخدعه, وعندما اقترب الفارس من مضجعه انتبه أن ثمة شيئا فريدا ثابتا أمامه مصنوعا من الخشب, وما إن تساءل الفارس مستفسرا حتي أجابه الوصيف بأنه صانع هذه الآلة, وأنه من أتي بها بوصفها خادم الحذاء, ثم راح الوصيف يشرح كيفية استخدام الآلة الجديدة في خلع الحذاء. جرب الفارس الآلة متسليا, فخلع بواسطتها حذاءه لمرتين, وما إن شرع في تجريبها للمرة الثالثة, حتي دخلت زوجته تحمل الدواء في كأس علي صينية, كادت تسقط من يديها لحظة شاهدت زوجها قد أعطي رجليه لتلك الآلة, فاغرورقت عيناها بالدموع, وصاحت كمن أصابها زلزال, تتساءل في دهشة واستنكار, عما يفعله زوجها بتلك الآلة, وقد تسلل من صوتها منزلقا إحساس مشبع برعب خسارة كل الخسارات, وراحت عاتبة بوجدان جريح, مذبوحة بوهن الهوان, تستعلم بنهم جارف إن كان سيدها قد استغني عن خدماتها, واتخذت مكانها عنده قطعة من الخشب, فطمأنها الزوج أن الآلة فقط لخلع الحذاء. لم تقبل تلك المواساة, وانتبهت فزعة تتحري عمن فكر في هذا الاختراع الآثم الذي يوفر لزوجها آليات الاستغناء عنها, واستبعادها بمنعها عن ممارسة حقوقها تجاهه. اعترف الوصيف بفعلته, طالبا منها العفو, مؤكدا نزاهة مقصده في مبادرته التي تجسد صدق ما يعتقد من رأي تجاه عزة المرأة وكرامتها, لكن السيدة أمرت الوصيف بالقاء تلك الآلة في النار, ذلك أنها علي يقين بأن الوصيف أراد حرمانها من التمتع بأحد حقوقها القيمة. اكتشف الوصيف أن السيدة التي بادر بالدفاع عن استحقاقها, عاجزة عن التحرر من تصورها المغلق, وعدم إدراكها نفسها, وإصرارها علي نسيان ذاتها, واستحقاقات وجودها. صحيح أن الزوج أبدي تقبلا لفكرة استخدام الآلة في خلع الحذاء, لكن الصحيح أيضا أن الزوجة بذاتها كشفت عما تريد أن تكون لدي زوجها, وليس مايراد لها أن تكونه, وذلك ماقد يؤول لتثبيت ترويج فكرة عجز المرأة تكوينا عن رعاية ذاتها, وهو مايبرر قبولها كل السلوك المستكره من الرجل لغياب جدارتها في مواجهته, وعلي الحقيقة فليس ذلك عجزا في تكوين المرأة, بل محض غياب للوعي بالقيم والحقوق التي يجب أن تمنحها المرأة الأولوية في حياتها, إذ يتجلي تغييب الوعي بتأثير الحكم الذكوري الوهمي المسبق, والسلبي المتوارث والمستمر ضد المرأة بالتشكيك في اقتدارها, تأبيدا لتبعيتها للرجل. لقد داهم الوصيف الشاب ألم مرير نتيجة مواجهته لسيدته بوصفها نموذجا مشوها لحقيقة المرأة, وفي الوقت نفسه, تزايد زهوه العظيم باختراعه الوليد, فحمله إلي مخزن في أعلي البرج, وكتب عليه خادم الحذاء, شارحا كيفية استخدامه, ثم خبأه في حفرة بالجدار, سدها بالحجارة, آملا أن تتفهمه الأجيال القادمة. وعند بزوغ الفجر هرب الوصيف الشاب, وصار في طي النسيان, شهيدا لاختراعه. صحيح أن هذه الآلة قد شخصت سؤال الاتهام الجوهري الموجه إلي مجتمع المركزية الذكورية, الذي يولد التفاوت والتفاضل في علاقة المرأة بالرجل, ويصادق علي الهيمنة الذكورية التي يتأسس عليها هذا المجتمع, وصحيح أيضا أن هذه الآلة خلخلت منطق ووسائل استلاب المرأة من حقيقتها, بوصفها بالحق شريكة حياة, لابد من الاعتراف الكامل بشرعية شراكتها وليس التناقض معها والكف عن محاولات تأبيد امتلاكها. لكن الصحيح كذلك أن المفارقة تكمن في أن المرأة نفسها كانت تفتقد إرادة التحرر من الاستلاب, لذا راهن الشاب علي المستقبل ورحل. بعد طور حضاري مغاير, تتمثل أهم ملامحه في تطورات ثقافية تحققت عبر مسار مائة عام, سكن الحصن أحد أحفاد الفارس المتجبر, كان رجلا وديعا محبا للعلم, له زوجه مرحة رقيقة, وطفلان. ذهب الطفلان مرة ليلعبا في البرج القديم شبه المتهدم, فعثرا بين الأنقاض علي تلك الآلة خادم الحذاء التي ترمز إلي التحرر من الهوان, فجاءا بها إلي أمهمها. تبدت الآلة شيئا غامضا بالنسبة إلي السيدة, لكنها تخطت ذلك الغموض عندما أتمت قراءة ماهو مكتوب عليها, فأشرق وجهها فرحا, وأطلقت ضحكة عالية, وشاركها الصغار فرحتها ورقصها مع تلك الآلة. عاد الزوج إلي البيت, وعندما طلب إلي زوجته أن تخلع له الحذاء, تدبرت الزوجة أمر سلوكها, فاعتذرت برقة متناهية, وكررت اعتذارها, وأرفقته بانحناءة تنتمي إلي العصور الوسطي, وأضافت شارحة أن الخادمة المنوط بها هذا العمل تقدمت باستقالتها, وقد وجدت عاملا يقوم بواجب خلع الحذاء بدلا منها, ثم وضعت الآلة عند قدمي زوجها. ولأن حديث الزوجة لم يكن ملغوما بالأذي, لذا تبدي ماقالته وكأنه لم يفاجئ زوجها, إذ في اللحظة الأولي بعد سماعه لها لاطفها تحببا, وإن كان قد شعر بدوار اضطره إلي الجلوس, ولاشك أن ذلك من تأثير وهج لحظة مغادرته لمفهوم ملتصق به, واستقباله لما يغايره, فعين المشاهد لابد لما تراه أن يتكيف مع مايقع وراء العين, أي مع وعيه الداخلي, فقد تجلي للزوج في هذه اللحظة إدراكه لمادة جديدة في تاريخ الحضارة الذي لم يكن غائبا عن الأذهان تماما, صحيح أنه تاريخ لم يدون بعد, لكنه أيضا لم يعد تاريخا مؤجلا. لقد استشرف الزوج بعقلانية المشهد, فرأي النساء وقد اتبعن زوجته, وأشير أيضا علي كل الرجال بأن يتركوا مهمة خلع الحذاء إلي آلة خالية من الإحساس بدلا من أيدي زوجاتهم. تري أليست المرأة قيمة يجب النأي بها عن الإهانة والاستهانة بها؟ لكن مخاوف الزوج تجلت واضحة عندما راح يسأل ولده ذا السنوات السبع, عما إذا كانت حاله ستسوء مثل أبيه, نتيجة ذلك المستقبل غير المفرح الذي اختلت فيه العلاقة بين المرأة والرجل, لكن زوجته صححت مقولته, بأن العلاقة قد عدلت قليلا فقط, وفي مقاربة كل منهما خلال نقاشهما, لم يستطع أي تضليل مضاد أن يقتنص المفهوم المتحضر لعلاقة المرأة بالرجل, ذلك لأنهما معا لم يسعيا إلي موقع لأي منهما خارج الشرط التاريخي للعصر, ولأنهما كذلك لم يجنبا العقل مواجهة مالايقدر علي استيعابه, حيث بذل كل منهما إمكانية التشبث بالفهم والاستيعاب, مهما كانت هواجسه, لذا فأن ماتبدي من نقاشهما أن رهان أية علاقة إنسانية ايجابية صحيحة, ألا يحل كل شبه محل كل أصل, بمعني ألا يحل الخنوع محل الحب, وألا يحل حب السيطرة والخنوع محل الوفاق. التفت الزوجان إلي شجار الطفلين, إذ أعلن الولد أنه لن يتزوج امرأة ترفض أن تخلع له حذاءه, فصفعته أخته الصغري عقابا علي مقولته. صحيح أن الزوج عندئذ غاص في التفكير, وهمس إلي زوجته بأن النتائج غير معروفة المدي, لكن الصحيح أيضا أنه تنهد مستعينا بخادم الحذاء ليخلع حذاءه. هذه الحكاية للكاتبة الألمانية ماري فون إيشنباخ(1830 1916), التي بعنوان حكاية غبية, هي إحدي الحكايات التي جمعتها الكاتبة الألمانية أورسولا شولتسه في كتابها المسمي أخوات شهر زاد, الذي يضم مجموعة من أجمل الحكايات التي كتبتها النساء اللائي يشتركن مع شهر زاد في استخدامهن الحكي دفاعا عن وجودهن. لاشك أن ماتطرحه الحكاية أن امرأة القرون الوسطي, هي النموذج المضاد للتحرر, فقد كانت ضحية ذاتها المستباحة الخانعة, والمفتقرة إلي الوعي بحقوقها, والمفتقدة لأية دفاعات عن وجودها في سياق شرطها الانساني, وبوصفها شريك حياة, أما امرأة مابعد مرور مائة عام, فإن وعيها بنفسها وحقوقها, لم يسمح لها أن تكون ضحية ذاتها, أو ضحية غيرها, كما أنها بقدر استمساكها بحقوقها, لم تتخل عن خصوصية كيانها كامرأة, ولم تتطلع إلي مغادرة موقعها بوصفها شريك حياة إلي جانب زوجها. صحيح أن الوعي يشكل جوهر نجاح أي مشروع للتغير والتحرر واسترداد الحق, وصحيح أيضا أن الوعي الذي يمر بتجربة تغير يمتلك إدراكا حاسما يحكم التفكير في المترتبات المستقبلية في ظل هذا التغير, لكن الصحيح أنه ليس ثمة إمكانية للتغير دون حضور منظور عقلي يحفز تفعيل قوي ثلاث, هي: تقييم الذات, وانتقاد الذات, ومسئولية الذات, حيث تشكل مجتمعه حس الضمير. إن رهان أي تغير ألا يحرم الناس استحقاقهم في الإنصاف, لأن من ينصف نفسه, عليه ألا يحرم الآخر حق الإنصاف. المزيد من مقالات د.فوزي فهمي