من الطبيعي أن يكون البحر حاضرا في قصائد شعراء الإسكندرية حضور القرية في قصائد الشعراء الريفيين, وحضور البادية في الشعر العربي القديم, فكما أن لكل لوحة مصورة بؤرة يبدأ منها التشكيل 0 ويترتب عليها وضع التفاصيل المحيطة قربا وبعدا, وتنويرا وتظليلا, فكذلك الأمر فيما يحيط بالشاعر من عالم الطبيعة وعالم الناس أفرادا وجماعات. والبحر هو بؤرة الشعر السكندري, بل هو بؤرة الوجود السكندري كله, فالسكندريون صيادون وبحارة, مقيمون ومسافرون, مودعون ومستقبلون, وأنا أنظر في سير شعراء الإسكندرية فأري كأن البحر هو مسقط رأسهم, حتي الذين هاجروا إليها من خارجها, كاليماخوس قدم الي الإسكندرية من قورين, وهي مستعمرة يونانية علي الشاطيء الليبي, ونحن نراه في بعض أشعاره محارة معمرة, وقوقعة تنشر شراعها وتمخر عباب البحر ضاربة بقدميها الأمواج حتي ترسو علي الشاطيء, وثيوكريتوس قدم إليها من إحدي جزر اليونان فامتلأت قصائده بصور البحر وروائحه, أما قسطنطين كفافيس شاعر الإسكندرية الأكبر في هذا العصر, فقد جاءت أسرته الي الإسكندرية من اسطنبول حاملة معها تاريخ اليونان ومغامراتهم في عالم البحر المتوسط. في رحلتك الي جزيرة ايتاكا/ لن تقابل الغيلان ولا المردة ولا إله البحر الغاضب/ ما لم تكن قد جلبتها معك! وفي هذه الناحية لا تختلف سيرة الشعراء المصريين والعرب عن سيرة الشعراء الأجانب, عبدالرحمن شكري ولد في بورسعيد, لكنه قضي سنواته الأخيرة في الاسكندرية, وخليل شيبوب هاجر إليها من اللاذقية, أمل دنقل هو وحده الذي سار مع النيل حتي صب في الإسكندرية قادما من أعماق الصعيد! واذا كان الشاعر فؤاد طمان, وهو موضوع هذه المقالة, قد ولد في الجيزة, فقد رحل مع أسرته وهو طفل الي الإسكندرية التي صارت وطنه, ونستطيع أن نقول إنه ولد فيها من جديد, فالبحر مسقط رأسه وبؤرة شعره, وقصائده فيه تعد بالعشرات, وتؤلف ديوانا كاملا. *** والبحر في شعر فؤاد طمان ليس مجرد اسم لمكان يقف علي حدوده ويشير اليه من بعيد, وانما هو عالم غني حي, ماء وعشب, وموج وزبد, ورياح وأنواء, وبروق ورعود, وغيوم وصخور, وجزر وشواطيء, ونوارس وأصداف وقواقع, وهو إذن مكان مأهول له تاريخه وأيامه, نهاراته ولياليه. كان إيليت يغلق أبوابه/ والمدينة من أول الليل نائمة/ والمقاهي التي يلتقي الشعراء بها في ليالي الشتاء المطيرة خاوية/ وأنا للمساءات منتسب/ فإلي أين أذهب في هذه الغربة الواسعة؟! ... أمس كان طلولا/ وقلب المدينة كان علي غير عادته موحشا/ موحشا سيظل فقد رحل العاشقون/ ومن لم يسافر مشي وحده للفنار القديم/ هنالك يذرع أرصفة البحر منتظرا طيف من لن يعود علي السفن الراجعة! البحر هو بؤرة هذه القصيدة التي سماها صاحبها بكائية علي البحر, فالبحر لا يذكر فيها باسمه فحسب, وانما يتمثل في كل ما يحيط به ويعبر عنه, كأنه امتداد له, ليالي الشتاء المطيرة, والغربة الواسعة, والشوارع الموحشة, والفنار القديم, والسفن الراجعة. واذا كانت هذه الصور كلها تعبيرات مختلفة عن عواطف الشاعر وأحاسيسه, فباستطاعتنا أن نقول إن البحر في شعر فؤاد طمان هو الشاعر, أو هو المرآة التي يري فيها الشاعر نفسه, لا كما يفعل نرسيس المفتون بجماله في الأسطورة اليونانية, بل كما يفعل التائه الباحث عن نفسه الذي يكلم خياله ويسمع صدي صوته. البحر في شعر هذا الشاعر متاهة تتمثل فيها الحياة, في قصيدته البحر يقول: زرقة البحر صفحة عمري فيها البداية والمنتهي/ لا أحب الصحاري ولا التربة الحجرية, يبعثني الماء إما ترقرق, والنور إما همي فوقه فزها. ويقول في نبيذ الآلهة مخاطبا حبيبته: إنني البحر مثلك, ليس يقود البحار أحد/ حدنا المنتهي/ ليس من قبله للرياح التي في الجوانح حد. وباستطاعتنا أن نقول إن البحر الذي يتحدث عنه فؤاد طمان ليس البحر الذي نعرفه, وإن بدا من هذا البحر الذي نعرفه, وانما البحر في شعره هو الغيب, أو هو السر, أو هو المجهول الذي نتخيله ونلونه بمشاعرنا ونخلع عليه عواطفنا المختلفة, ولو عدنا الي قصائد فؤاد طمان لوجدنا أن الغيب, والسر, والأبد, والأزل تحتل في معجم الشاعر وفي شعره المكان الذي يحتله البحر الذي ترمز له كما يرمز لها. باختصار, البحر هو العالم الداخلي للشاعر, هذا العالم الذي هو مزيج من الأحلام والهواجس والذكريات التي تحتل مكانا مهما في شعر فؤاد طمان, فإذا كان مشهد البحر باعثا علي التذكر فالبحر من ناحية أخري ملجأ نفر إليه طلبا للنسيان, ونحن نجد في بعض الأساطير السامية أن البحر والماء بالتحديد يشفي, لأنه يطهرنا من الماضي ويخلصنا من آثاره, الزمان مرتبط بالمكان, والبحر ليس مكانا, إنه عالم يتجاوز المكان, موج يذهب ويجيء, يحمل المسافر ولا يحمل المقيم. ويذكرني ما قاله فؤاد طمان في البحر بما سبق أن قاله فيه شاعر سكندري آخر هو الرائد الأستاذ عبدالرحمن شكري, في قصيدته الرائعة وصف البحر من ديوانه الثاني لآليء الأفكار: ألا ليتني لج كلجك زاخر أعب كما تهوي النهي والبصائر ..... خريرك يحكي صدحة الدهر صامتا كأنك دهر بالحوادث مائر ..... وأنت شبيه الدهر لا أنت هارم ولا أنت منقوص, ولا أنت خاسر!