كنت في برلينالشرقية في صيف1989, قبل سقوط سورها الشهير بثلاثة أشهر, وينهار بعده المعسكر الشيوعي مثل بيت مبني من القش والطين, حين جلست الي الدكتور هانز ولفجانج والدكتورة كريستين فيلش, والأستاذ الجميل احمد الجندي مدير تحرير الاخبار( رحمة الله عليه). والسيد محمدأبوسالم نائب رئيس جمعية الصداقة المصرية الألمانية وقتها( أطال الله في عمره), ورحنا نتحدث في موضوعات شتي, من الموسيقي الي الرسم, ومن الشعر الي المسرح, ومن الفلسفة الي الأدب, ومن النساء الي النبيذ, ونلتمس الفروق بين الثقافة العربية المعطرة بالعاطفة والانفعال, والثقافة الألمانية الغارقة في العقل والمنطق, وفجأة سألني دكتور ولفجانج المكلف من وزارة الخارجية بأن يرافقنا في جولاتنا هل تؤمن بالأديان؟! فسألته بدوري: ماذا تقصد بلفظ الأديان؟ قال: كل الأديان.. اليهودية والمسيحية والإسلام والبوذية والزراد شتية والهندوسية.. الخ؟ ضحكت قائلا: يبدو أنك تود ان تقودنا الي عبارة كارل ماركس ذائعة الصيت وهي ان الدين أفيون الشعوب, بمعني انه المخدر الاكثر تأثيرا في عقولهم ومشاعرهم.. وأن رجال الدين اخطر من تجار المخدرات علي الناس. فرد بصرامة ألمانية معتادة لكنها لاتخلو من أدب: قطعا.. الدين هو أفيون الشعوب, وهو أكبر تجارة عرفتها البشرية في تاريخها كله. قاطعته: مجرد رأي فيه كثير من الغضب والتمرد علي أوضاع طبقية سادت أوروبا فترات طويلة وتحصنت بالدين والكهنوت لتصون امتيازاتها, ولا أنكر ان الدين قد جري استغلاله استغلالا مشينا من رجال دين ورجال سياسة وإقطاعيين وأصحاب ثروات في توطيد أوضاعهم بدعوي ان هذه الاوضاع الجائزة هي بالحق الإلهي وليست من صنعهم, وتسبب هذا الاستغلال في مظالم ومآس وأحوال بائسة وأحيانا في تراجع عقلي وفكري وحضاري, لكن استغلاله لاينفي قيمته ورسالته السامية من أجل إسعاد البشر, وخذ الإسلام مثلا لانني لا أملك حق الحديث عن أي أديان أخري فقد قاد جماعة من البدو الحفاة الي قمة الحضارة الإنسانية بالسلوك والقيم الإنسانية! سألني: هل تقصد أنه لم يحدث مفاسد أو استغلال؟ أجبت: مثل أي دين آخر.. حدثت مفاسد ارتكبها مسلمون, لكن الانسان ليس حجة علي دينه.. مثل ان تؤمن بالديمقراطية ثم تضع الناس في السجون والمعتقلات.. فهل العيب في الديمقراطية ام في تصرفاتك أنت؟! فسألني: إذن أنت تؤمن بالأديان؟! قلت: الأديان السماوية فقط, ولكن أومن أيضا بحق كل إنسان في أن يعتنق مايشاء من أديان دون ان يخل هذا بحقوقه الانسانية أو يعرضه لتمييز أو اضطهاد من أي نوع. فسألني: ومن أدراك أن الأديان التي تؤمن بها قادمة من السماء؟ فأعدت إليه سؤاله: ومن أدراك انها ليست من السماء؟ قال: هي أقرب الي الحكايات والأساطير المغلفة بدعوة أخلاقية! قلت: حكايات الأقدمين في الكتب السماوية ليست اساطير, هي تاريخ وتجارب وخبرات, مشاعل علي طريق الحياة تبدد الغموض وتشع نور العبرة والموعظة. سألني: هل تريد ان تقول ان الاسلام دين من السماء؟! أجبت بهدوء وبطء: يقينا.. ودون ذرة شك واحدة؟! فسألني: وما دليلك أو حجتك العملية؟! لفني الصمت برهةورحت أفكر وأسال نفسي: ماهي نوعية الدليل الذي يمكن ان يقتنع به ماركسي ملحد ينفي الدين من أساسه, ولا يعتقد إلا في البراهين المادية الدامغة, ولاينفع معه مايردده أغلب رجال الدين في العالم الإسلامي من كلام عاطفي ومعجزات لغوية وأحاديث ترغيب في الجنة ونعيمها أو ترهيب عن عذاب القبر وجحيم الآخرة؟ وفجأة لمعت في عقلي فكرة مثل ضوء برق قادم من بعيد, فكرة تبدو مستحيلة لكنها راقت لي.. فقلت له متحديا: المنهج الماركسي نفسه الذي تأخذونه حجة علي إنكار الدين, هو أكبر قرينة علي ان الاسلام دين من السماء وأن محمدا رسول من عندالله.. حدق ولفجانج في طويلا, ثم اشاح بوجهه عني ممتعضا كما لو انه ينهي الحوار المستحيل.. لكن الدكتورة كريستين فيلش وهي حاصلةعلي درجة الماجستير في الأدب العربي خلاف درجة الدكتوراه في النظرية الماركسية تدخلت وقالت ب لغة عربية مكسرة: أنت أكيد تبالغ أو تضحك علينا! قلت: لا هذا ولا ذاك.. العكس هو الصحيح.. جدية لها منطق! سألتني مندهشة: وكيف ذلك؟! قلت: المنهج الماركسي في التفكير والتحليل يعتمد علي الاستقراء ويستند الي التطور المنطقي الطبيعي للأفكار والقيم والنظم عبر التاريخ الانساني. قالت: نعم. قلت: إذن نطبق المنهج الماركسي في التحليل علي الدين الإسلامي وكتابه هو القرآن, ولنر.. هل هو قادم من السماء أم هو من اختراع انسان؟ انتبه الحاضرون وحل عليهم الصمت والترقب, لكن لاح علي وجوههم عدم التصديق قبل ان أنطق بحرف واحد, وكان ترقبهم أشبه بالشغف الذي يملأ قلب متفرج يشاهد ساحرا يمارس ألاعيب الخداع البصري أو ينتظر من أحد الحواة ان يضع الفيل في المنديل, ولم لا.. وليس لديهم ما يخسرونه, ونحن جلوس في كافتيريا تطل علي شارع تتناثر فيه اشجار الزيزفون بإسراف بديع. وقلت: علينا ان نبدأ بسؤال بسيط للغاية: هل الإسلام طفرة غير مسبوقة في الفكر والقيم والتشريعات والعلاقات التي نظمها بين الناس من زواج وطلاق وميراث ومعاملات وحقوق وواجبات.. الخ ام هو مجرد تطوير ونقلة اضافية في سلم المعرفة البشرية من قيم وعلاقات؟.. هل هو حالة فريدة من المعارف الروحية والمادية لانظير لها في التاريخ الانساني تفوق ماعرفه البشر قبل بزوغ شمسه, ام حالة متكررة في رحلة الانسان للتطور المعرفي تحدث كلما توافرت لها ظروف ثقافية وحضارية مواتية؟! نكمل بعد أسبوعين