رحلة التنقيب عن معان وكيفية إعادة ترتيب أوراق الدار الوطنية تحتاج ربما الي وقفة للتروي, وإذ بصاحبي يستشعر نفس الحاجة الي التشاور والحوار, يفاجئني مستبشرا وهو يدخل من باب اليمين كعادته الي غرفة المكتب. عفارم عفارم عليك يا أخي.. أراك تفتح ملفات حيوية كم نحن في حاجة الي التمعن في دراستها لحظة صياغة العالم الجديد من حولنا, أتساءل: ألا تري أن الواجب يقضي بوقفة لالتقاط الأنفاس؟ يعني: هل علينا أن نبدأ من جديد؟ أم أن ما هو قائم حقيقة لا يصلح مادة للتجديد؟ ألا توجد في رأيك إمكانية أو وسيلة لاختصار الطريق؟... صاحبي علي ألف حق, وانما أردت فقط أن أفتح الملفات دون الافتاء إيمانا مني أن تخطيط المستقبل في حاجة الي روية وتعمق, لابد أن نبدأ مما هو قائم, نعم, ولكن ما هو قائم والتساؤلات التي يثيرها لم يأت من فراغ, لا شيء يأتي من فراغ, إذ أن كل شيء له جذور ومسيرة محددة هي التي صاغت خصوصيته وملامحه. تعالي مثلا نعود الي ملف هوية مصر يتفق الجميع, أو هكذا كان الأمر حتي عقود قريبة, أن شخصية مصر هي نتاج مسيرة الحضارة المصرية منذ سبعين قرنا, ثم اتجه قطاع من الرأي الي تأكيد بدايات أكثر حداثة في مسيرتنا التاريخية, الي أن بلغ الأمر أن رأي اتجاه تجديدي منذ نصف قرن أن تكون الأولوية للبعد العربي, من هنا بدأ الجدال بين شعور شعب مصر العميق بأولوية الانتماء الي القومية المصرية, بينما اتجهت قطاعات الي عروبة مصر في المقام الأول الي حد اختفاء اسم مصر لفترة قصيرة بعد وحدتنا مع سوريا الشقيقة. عادت الأمور الي أجواء تأليفية طبيعية, هذا بينما جاءت موجات ردود فعل متنوعة تدعو الي الاكتفاء بمصرية مصر دون البعد العربي. صاحبي يتساءل: كل هذا دار في أيامنا وتحول أحيانا الي صراع فكري, وكأن الموضوع بلا مقدمات ولا جذور, كيف نسينا أو تناسينا إسهام أجيال الفكر والعمل في إضاءة ركائز شخصية مصر؟.. أم أننا نبدأ هكذا كل مرة من فراغ... صاحبي علي حق.. ألف حق, والغريب أن أسماء رواد الفكر التاريخي والجيوسياسي وفلسفة الحضارة المصرية معروفة للجميع لا أحد نسي أو تناسي جمال حمدان, وكذا فإن الأجيال الجديدة عادت الي أعمال حسين فوزي وعبدالفتاح صبحي وحيدة, التي انزوت لحظة في أجواء الانفتاح وتدفق موجة القيم السوقية التي سيطرت علي قطاعات واسعة من الإعلام. صاحبي يشاركني الرأي: طيب... هذه الأسماء الكبيرة تحتل مكانة مرموقة لدي العارفين, أسألك: ماذا تقول كتب التاريخ في مختلف مراحل التعليم عن أفكار هؤلاء الرواد؟ ما هي نسبة خريجي جامعاتنا الذين علي علم بخلاصة أفكار كبار مفكرينا؟ ثم: لماذا لا تهتم مؤسساتنا الثقافية والسياسية الرسمية, وكذا مختلف الأحزاب السياسية, بتنظيم الندوات والحلقات الدراسية للتعمق في معرفة اسهامات أعلام تراثنا الفكري المعاصر في اضاءة أركان شخصيتنا القومية؟ ألا تري معي أن هذا التحرك يمثل واجبا علينا جميعا؟ أم أننا نكتفي بحلقات الحوار في التلفزة مثلا؟.... واجب وطني بكل معاني الكلمة, كما يقول صاحبي, قضية النيل, مثلا, لايمكن فصلها عن موضوع ترتيب أولويات دوائر انتمائنا القومي والتمييز بينها وبين دوائر تحركنا السياسي في الخارج, فإن كانت الدائرة التكوينية الرئيسية لشخصيتنا القومية هي مصر, فمعني ذلك أن دائرة تحركنا الخارجية الأولي يحددها محور وجود مصر: أي النيل, وهذا لا يعني أن الدائرة العربية مهملة, ولكنها تأتي في السلم التالي لدائرة محور النيل الحيوية. * صاحبي يقاطع من جديد: يا أخي لماذا لا تفصح بشكل واضح مبسط عن آراء تبدو أنها مفهومة ومقبولة عند الناس في بلادنا؟ أتساءل, أسألك: هل يمكن ترتيب هذا الموضوع بدءا من أفكار الرواد؟ بل انك اتجهت الي هذا المجال منذ الستينيات, أليس كذلك؟...؟.. صاحبي أحرجني, ولكنه قال كلمة الحق.. وربما من المفيد أن أشير هنا باختصار من جديد الي خلاصة العمل البحثي الذي استطعت أن أقوم به في الستينيات من القرن الماضي. كان التساؤل, بعد فشل الوحدة المصرية السورية, عن مسألة دوائر الهوية ودوائر التحرك, وقد قدمت رؤية في رسالة دكتوراه علم الاجتماع بجامعة باريس عام1964 صيغتها ما اقترحت تسميته الأمة ذات المستويين: المستوي الأولي الأساسي للانتماء الوطني القومي, أي الوطن الأمة, بالمصطلح المعمول به, ومن هنا يكون التحديد الأولي: مصر, المغرب, الشام, العراق, ليبيا, السودان..الخ. ثم هناك المستوي الثاني العلوي, الذي يجمع هذه الأوطان الأساسية( الأمم) في مستوي القومية الثقافية العربية, ان فكرة هذين المستويين تؤكد أولوية الانتماء الوطني القومي, وتحدد اجتماع هذه الهويات في دائرة ثقافية مشتركة. وقد تم نشر النص الأساسي لهذه الفكرة وكذا عدة دراسات في عدد من المجلات العربية والعالمية, وكذا أعيد طبع هذا البحث الرئيسي علي تنوع صيغه في عدة مؤلفات نشرت في مصر والعالم العربي: الفكر السياسي العربي المعاصر1960 1970, دراسات في الثقافة الوطنية1967 2002, والفكر العربي في معركة النهضة(1974 1978), نهضة مصر(1969 و1973 و2001 و2010), الوطنية هي الحل(2006).. الخ. صاحبي يوافقني, يتساءل: نعم, أنا أذكر هذه الفكرة التي كنا قد اتفقنا عليها في بعض المناسبات, لكن الغريب أنها تاهت علي ما يبدو, كما حدث لأفكار الرواد الذين أراك تؤكد اسهاماتهم الريادية في صياغة الفكر المصري المعاصر. نعم, تعودنا منذ عقود علي الاكتفاء بذكر كبار الأدباء وكأنهم مصدر الفكر المصري المعاصر, بينما الأمر يجب أن يتسع الي أصحاب الريادة في مجالات الفلسفة والتاريخ والحضارة والاجتماع في هذا المجال وهم كوكبة ساطعة في طليعة ثقافتنا المصرية والعربية المعاصرة. * كيف يمكن تري أن نجمع روافد الطاقة المصرية؟ هكذا تساءل صاحبي لعل الاجابة علي هذا التساؤل هي أن نضع حدا للعادة السطحية التي تدفع بنا الي الاختيار الجبري بين الشيء ونقيضه, بين حالة وحالة أخري, يجب أن نقلع عن هذا المنهج البدائي, فنبتعد عن صيغة إما/ أو الي الاجتهاد لاقامة مساحة من التلاقي بين مختلف الروافد والاسهامات والاجتهادات بكل ما فيها من تناقضات وتباين وتنوع واختلاف وقصور, علي أساس أن طريق إدراك حقيقة الأحداث والتطورات والتكوينات من حولنا يتم علي أرقي صيغة لو أدركنا أن التناقض هو جوهر الوجود, وهو جوهر التعليم فلسفة التاو الصينية التي تمثلت في كتاب فن الحرب لعون تزو, كبير مفكري سياسة هذه المدرسة واستاذ قادة ثورة الصين, وهو توجه فكري يواكب ما رأينا أن نقدمه من اجتهادات فكرية يدا في يد مع اساتذتنا الذين نذكر فضلهم في كل مناسبة ما دام أن مسيرة مصر تتصل. قال صاحبي: ** لابد أن نعود الي مسألة الوحدة, وكيف أن التناقض هو جوهر الوجود, أما هذه الأيام فإن الأمل عنوان الحياة في مصر... رمضان كريم؟!... المزيد من مقالات د.أنور عبد الملك