كانت عبارة مصر وسياسة التوجه شرقا: الواقع والآفاق, هي عنوان المؤتمر الذي شاركت فيه بدعوة من مركز البحوث والدراسات السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية, الاسبوع الماضي, لمدة يومين, وادارته رئيسة المركز الدكتورة هدي ميتكيس. ومع غزارة القضايا التي ناقشتها مجموعة كبيرة ومتميزة من الخبراء والمختصين علي مدي سبع جلسات, فإنني اخترت لمشاركتي في الجلسة الختامية, تناول الموضوع من زاوية العالم الذي يتغير من حولنا بإيقاع متسارع, ولايعرف التباطؤ ولا التدرج, وتجري فيه تحولات استراتيجية, مما دفع كثيرين من المتابعين في العالم, إلي إطلاق مسمي القرن الآسيوي, علي القرن الحادي والعشرين, استنادا إلي حقائق تشهد بأن ميزان الثقل العالمي سوف ينتقل من الغرب إلي آسيا, وهو ما اعترف به كثيرون من العارفين بالتغيير الجاري في العالم, من بينهم هنري كيسنجر. إن المناقشات لم تتوقف في العالم حول هذه التوقعات سواء علي المستويات الرسمية, أو في اطار معاهد ومراكز البحوث والفكر السياسي, إلا ان كثيرا من الدول قد تجاوزت مرحلة المناقشات, إلي اتخاذ خطوات فعلية في الاتجاه شرقا, وأعدت سياسات وخطط لإقامة بنية جديدة لاستراتيجيات التعامل مع الصعود الآسيوي, وظهرت في أمريكا وأوروبا, بل أيضا في اسرائيل. وكان صعود الصين هو القوة المحركة لهذا التحول, وقدرت مؤسسات سياسية واقتصادية عالمية, ترصد حركة المشهد العالمي, ان الصين تجذب إلي ناحيتها مركز الجاذبية الدولي, وهو ما أقرت به تقارير لوزارة الدفاع الأمريكية, والمجلس القومي الأمريكي للمخابرات, وغيرها من المؤسسات. ولما كانت القدرة الاقتصادية التنافسية للدولة قد صارت الآن المقياس الأول لقوة الدولة وقدرتها علي اكتساب المكانة والنفوذ في النظام الدولي الجديد, فقد اعتبرت الصين العنصر المحرك للاقتصاد العالمي. وبعد أن كانت أمريكا منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية عام1945, هي القوة صاحبة الدور المركزي في النظام الدولي, وفي صياغة مؤسساته, فإن البنية الاستراتيجية العالمية التقليدية قد بدأت تتزعزع نتيجة صعود الصين. وليس معني ذلك ان أمريكا ستفقد وضعها كقوة دولية متفوقة, لكن إعادة توزيع مراكز القوة العالمية, يجعلها واحدة ضمن مجموعة قوي متساوية. والولايات المتحدة من جانبها تبصرت مؤشرات هذا التحول, الذي نادي بها الكثيرون من مفكريها السياسيين, وبدأت حكومة أوباما تضع له خططا وسياسات, تراعي اعادة صياغة علاقاتها مع الصين, اقتناعا من الدولتين معا, بأن النظام العالمي المتغير, يقوم علي تبادلية المصالح. في هذا الاطار العام تأتي النظرة لقضية: مصر والتوجه شرقا. ومن المسلم به أن الفكر الاستراتيجي المعاصر يحتم سرعة اللحاق بعجلة هذا التحول التاريخي, وليس الانتظار حتي تكتمل صورة التحول. فإن معظم دول العالم قد خطت خطوات واسعة في هذا الاتجاه, وجهزت له أدواتها. والصين من جانبها لديها اهتمام بالغ بتطور ونمو علاقاتها مع مصر في جميع المجالات, وخاصة التعاون الاقتصادي, وتقديم ما لديها من خبرات, بما في ذلك إقامة المشروعات المشتركة المتقدمة تكنولوجيا, وليس ببعيد مشروع المنطقة الصناعية التي اختير لها موقع شمال غرب خليج السويس, والتي كان قد تقرر إقامتها, بناء علي اتفاق رئيسي وزراء مصر والصين, في القاهرة عام2006, وهو المشروع الذي لم تتح له للآن فرصة انتقاله إلي حيز التنفيذ.. ولعل المانع خير!!. وهو نمط من المشروعات التي تقيمها الصين في مناطق أخري في العالم. ان اتجاه العالم نحو تعددية القوي التي سيؤول إليها إدارة النظام الدولي, يعني من زاوية الرؤية الاستراتيجية, وجود فرصة لتعديل معايير إدارة الأزمات الدولية, والتي كانت تضع في يد القوة العظمي أمريكا زمام فرض التحيز لاسرائيل, من جانب السياسات الرسمية للولايات المتحدة, بالاضافة إلي ممارسة الضغوط علي قرارات المنظمات الدولية وخاصة الأممالمتحدة, ومجلس الأمن. لكن ذلك مشروط بالقدرة علي صياغة علاقة أوسع مدي مع القوي الصاعدة آسيويا, علي أساس المصالح المتبادلة, وتغطي المجالات السياسية, والاقتصادية, والثقافية. ولا يفوتنا أن نشير إلي ان اسرائيل, وضعت هذه الاحتمالات تحت الدراسة العميقة, وانتهت إلي إدراجها ضمن استراتيجية اسرائيل للسنوات العشرين المقبلة, التي اعتمدها مجلس الوزراء الاسرائيلي في يوليو2008. وتضمنت توصيات بالتوجه شرقا نحو آسيا مع التركيز علي الصين والهند, قبل أن يجلب عليها التحول في النظام الدولي, ما يؤثر سلبا في وضعها اقتصاديا واستراتيجيا. .. ان التوجه شرقا قد صار الآن حقيقة, أدركتها القوي الكبري التي تمسك وحدها في يدها بزمام إدارة العلاقات الدولية, عبر سنوات طويلة حملت اسم القرن الأمريكي.. وهي حقيقة تلقي في طريق القوي الاقليمية مثلنا, الفرص والتحديات معا, ولم يعد في الوقت متسع للانتظار, فنحن في عصر قد تأكد للجميع منذ سنوات, انه عصر فلسفته وقاعدة عمله هي التغيير, ودون أي تباطؤ.