فاجأني أحد المتحدثين بهجوم حاد علي موقفي من المدارس الأجنبية في مصر, وأشار إلي أن معارضة انتشار هذا النوع من التعليم الراقي يعد من سمات التخلف, ويتعارض مع التطور الطبيعي للنظام العالمي. التي تعتبر هذه المدارس أحد مظاهره, فالمدارس الدولية هي أحد تداعيات العولمة, وهي تنتشر في جميع دول العالم, وسألني متعجبا: ألا تنظرين إلي ما أحدثه هذا النوع من التعليم من طفرة في دول الخليج؟ صدمتني هذه الكلمات, ليس بسبب نعتي بالتخلف, لكن لكل ما تحتويه من مغالطات, وعدم وضوح الرؤية لكثير من المفاهيم, والواضح أن هناك لبسا عند البعض بين مفهوم المدارس الدولية التي ظهرت منذ نهاية التسعينيات, كرد فعل للعولمة, وبين المدارس الأجنبية التي تنتشر في مصر تحت مسمي المدارس الدولية, فالأخيرة تعمل تحت هدف تكوين المواطن العالمي, وهي لا تتعدي مدرسة واحدة في معظم دول العالم, أما الأجنبية المنتشرة في مصر هي مدارس استثمارية خاصة تقوم بتطبيق نظام تعليمي أجنبي( إنجليزي, أمريكي, فرنسي, كندي) من حيث المنهج والمحتوي والأنشطة, وتحقق أهداف النظام التعليمي لهذه الدول. إذا كانت المدارس الدولية أحد مظاهر العولمة, فالأجنبية في مصر من مظاهر نجاح جماعات الضغط علي نظام التعليم, والتي أصبحت في الآونة الأخيرة من أهم ما يميز المجتمع المصري, وجماعات الضغط هي مصطلح سياسي يطلق علي مجموعة من الأفراد يتشاركون في وجهات النظر والآراء, ولهم هدف معين يعملون بشتي الطرق للتأثير علي النظام لتحقيق مصالحهم, وتستخدم هذه الجماعات جميع الوسائل المتاحة, لإصدار قرارات لمصلحتها مستغلين في ذلك كل ما يملكون من نفوذ, وعلاقات شخصية, ومن أموال لتحقيق أهدافهم, بصرف النظر عن مدي أحقيتهم في هذه المطالب, ومدي تأثير ذلك علي الفئات الأخري أو المصلحة العامة للمجتمع, ولقد كان للتعليم في مصر النصيب الأكبر بعد الاقتصاد, حيث استطاعت جماعات الضغط أن تحدث تغيرات في العملية التعليمية لمصلحة بعض فئات المجتمع, وكان من أهم هذه التغيرات ظهور المدارس الأجنبية( التي تندرج تحت مسمي المدارس الدولية) منذ تسعينيات القرن الماضي. جماعات المصالح هنا تشمل الطبقة الاجتماعية التي اعتبرت هذا النوع من التعليم رمزا للمكانة الاجتماعية والثروة, مما أدي إلي ارتفاع مصروفاتها, ولقد فطن المستثمرون بحسهم التجاري إلي أهمية الدخول في مشروعات إنشاء مدارس أجنبية, نظرا للإقبال الشديد عليها, وبذلك أصبح مجال التعليم من الأنشطة المربحة, وظهرت جماعات المصالح من رجال الأعمال وغيرهم من المستثمرين الذين ينشدون الربح من استثماراتهم في التعليم لخدمة فئات اجتماعية معينة, والضغط علي الدولة لإنشاء المؤسسات التعليمية التي تخدم مصالح هذه الفئات, ومثل الطرفان, المستثمرون وأولياء الأمور قوة ضاغطة لانتشار واستمرار هذه الظاهرة, لما تمثله لكليهما من فوائد جمة, ومما يؤكد الوجه الاستثماري لهذه المدارس, أن مصروفات تتراوح بين30 و70 ألف جنيه, حسبما تقدمه المدرسة من إمكانات علي سبيل المثال( حمامات سباحة ركوب خيل), وهذا يؤكد ما ذهبت إليه أدبيات جماعات الضغط من أن هذه الجماعات قادرة علي أن تلعب دورا مؤثرا, خاصة إذا كانت تملك المال أو السلطة, وتنجح في ذلك لدرجة أنه يبدو ظاهريا أن هذه القرارات والتحولات تأتي لخير المصلحة العامة, لكن في الحقيقة هذه التغيرات لا تخدم إلا مصالح فئة محددة, وعادة ما يكون ذلك علي حساب معظم فئات المجتمع. هناك العديد من الدراسات العلمية التي تؤكد هذا الكلام, وهذا يعني أن هذا النوع من التعليم ليس أمرا محتوما, أو استجابة للواقع العالمي, كما يري البعض, أو أنه فرض علينا كما يظن البعض الآخر, بل هو اختيارنا. أما كون هذه المدارس راقية ومتطورة, فهذا مما لاشك فيه, فماذا نتوقع من مدارس تصل مصروفاتها إلي60 ألف جنيه في العام, وبالنسبة إلي أن هذه المدارس تمثل قاطرة التقدم, وأن انتشار التعليم الأجنبي قد يعكس رغبة جدية في النهضة ومواكبة العصر والتخلص من حالة التخلف, فهذا غير صحيح, يكفي أن نعرف أن التعليم الأجنبي انتشر في مصر منذ1870 إلي1956, ولم يقدنا إلي أي تقدم, كما أنه لا يمكن اعتبار دول الخليج نموذجا لأن عمر التعليم الأجنبي لم يتعد بضع سنوات, ولم تخرج منه أجيال حتي نستطيع تقويم نتائجه, بالإضافة إلي كثير من الأمور ليس هذا مجالها. أردت من هذا المقال أن أوضح لكل من يدافع عن التعليم الأجنبي, ويري أنه إشراقة أمل نحو التقدم, أن القضية أكبر من مجرد نوع مميز من التعليم لمصلحة طبقة معينة, بل إن الآثار المترتبة علي هذا النوع من التعليم أخطر مما نتوقع, وهناك العديد من الدراسات التربوية التي تتناول التعليم الأجنبي علي أسس علمية, ليس مجرد قناعات شخصية, والتي يجب الاطلاع عليها لمن يريد الحوار.