في خضم الجدل الدائر حول الخطة التي طرحها أخيرا وزير الخارجيه الإسرائيلي' أفيجدور ليبرمان', وتحدث فيها عن الانفصال بشكل نهائي عن قطاع غزة, وقطع كل صلة معه في ما يتعلق بالشئون المدنية, بما في ذلك الإمداد بالماء والكهرباء, علي ان يبقي خاضعا للرقابة الامنية الاسرائيلية عبر وكلاء دوليين. حاول فريق من السياسيين وبعض المحللين التقليل من أهمية تلك الخطة, في محاولة لطمأنة الرأي العام الفلسطيني والمصري علي حد سواء, إزاء التحديات السياسية والامنية الخطيرة التي يمكن أن تترتب علي مثل هذا الوضع. وقد انقسموا في ذلك إلي فريقين: أحدهما راح يشير الي أن تلك الخطة لم تحظ حتي الآن بموافقة أو إقرار رسمي من قبل الحكومة الاسرائيلية, ومن ثم فهي من وجهة نظرهم, من نمط الافكار والتصورات الفردية المعزولة. أما الفريق الآخر فراح يربط بين موعد الإفصاح عنها أي الخطة- وبين زيارة جورج ميتشيل الاخيرة للمنطقة, لا سيما وان مهمة المسئول الامريكي تركزت هذه المرة في محاولة إقناع القيادة الفلسطينية بالانخراط في المفاوضات المباشرة. والمعني الكامن وراء هذا الربط هو أن الخطة, وحتي بافتراض أنها تعبر عن وجهة نظر الحكومة الاسرائيلية وليس ليبرمان فقط, لا تتعدي حدود كونها مناورة إسرائيلية تستهدف إثارة الفزع والمخاوف لدي الطرف الفلسطيني, وبعض الاطراف العربية المعنية, بحيث يمكن لميتشيل استخدامها' كفزاعة' لوضع الفلسطينيين أمام خيارات صعبة, فإما الموافقة علي الذهاب لمفاوضات مباشرة, وإلا فإن الخطة تقدم نموذج' البديل' الذي ينتظرهم. غير أن الواقع يشير إلي أن خطة ليبرمان ليست مناورة, وإن كانت تفيد في هذا المجال. كما أنها ليست واحدة من مغامرات ليبرمان أو تعبيرا عن تصور فردي من قبله, بقدر كونها تعبيرا عن جوهر السياسة والأهداف الإسرائيلية, فالتخلص من المسئوليات القانونية تجاه القطاع كان ولا يزال في قلب الاهداف الإسرائيلية. ولهذا قامت تل أبيب بخطوات عديدة في تكريس الانقسام وتعميقه, وفصل كل الروابط العملياتية بين الضفة وغزة. ويمكن القول إن ليبرمان ليس حالة فردية في هذا السياق, فوزير المواصلات الإسرائيلي' كاتس' كان قد دعا علنا في وقت سابق للتخلص من غزة, وقبله كانت حكومة ايهود اولمرت قد أقرت في سبتمبر2007 التعامل مع القطاع' ككيان معادي' ومع أسراه كمقاتلين غير شرعيين, كما أنهت إسرائيل العمل بالكود الجمركي الذي تعطيه اتفاقية باريس الاقتصادية. وعلية فإن خطة ليبرمان تعد في سياقها الزمني والموضوعي استكمالا وتتويجا لسياسة إسرائيلية تضرب في أعماق الماضي القريب, وليس فقط في اتجاه صياغة المستقبل, حيث يجري عمليا تنفيذها منذ أن قرر شارون إعادة انتشار قواته, وتفكيك المستوطنات في غزة عام2005. والعنوان العريض لتلك الخطة هو' الحل المرحلي بعيد المدي'. أما الآلية المفضلة إسرائيليا لذلك فهي' الفصل الأحادي الجانب', والذي لا يعني أبدا, كما يعتقد البعض, الفصل بين غزة وإسرائيل فحسب, وإنما أيضا الفصل بين غزة والضفة, وكذلك الفصل بينهما معا وبين القدس, ثم بين كل مدينة في الضفة وأخري( كانتونات), وصولا في النهاية إلي الفصل بين كل مكونات قائمة الحقوق الفلسطينية. وفي المحصلة الأخيرة فإن خطة ليبرمان تعد في هذا التوقيت بالذات, استكمالا أو تتويجا للموقف الإسرائيلي الذي لا يري امكانية لتحقيق السلام, لا علي الطريقة الأمريكية, ولا علي الطريقة الفلسطينية والعربية. وهذه الخطة بهذا المعني تقتل عملية السلام التي صممت منذ لحظة انطلاقها علي أساس' حل الدولتين', بل وتقتلعها من جذورها. لان تنفيذ إسرائيل لمثل هذا التصور سيؤدي عمليا الي استحالة قيام دولة فلسطينية في الضفة وغزة, وبالتالي استحالة تحقيق حل الدولتين, أي ان السلام يصبح مستحيلا, ومن ثم يكون الصراع هو سيد الموقف. ليبرمان يراهن علي حماس المفارقة أن إسرائيل وهي تتهيأ لضرب المشروع الوطني الفلسطيني في مقتل, تراهن في ذلك علي' حماس'. فإسرائيل وبعد أن اطمأنت الي أن القطاع أصبح منطقة آمنة عسكريا, لا تنطلق منه صواريخ أو مقاومة, فحماس التي تريد أن تحافظ علي إستمرارية حكمها لغزة, أصبحت أكثر استعدادا لتلك المقايضة الاستراتيجية, لاسيما مع إقحام دول الاتحاد الاوروبي أو الناتو لمراقبة وتفتيش الممر البحري الذي سيصل القطاع المنفصل بالعالم. أما حركة حماس, فرغم أن الموقف الرسمي الذي تم التعبير عنه من قبلها إزاء خطة ليبرمان, كان الرفض القاطع, إلا أن مؤشرات وممارسات عديدة تشي بعكس ذلك تماما, وتكشف عن أن هناك أصواتا وقناعات تتسع يوما بعد الآخر داخل الحركة, لا تعي عمق الكارثة الوطنية الفلسطينية في مسألة فصل قطاع غزة نهائيا عن بقية الأرض الفلسطينية. أولها: فكرة أو وهم' تحرر قطاع غزة' الذي لا يزال يدغدغ وجدان بعض قادة حماس وينعكس في تصريحاتهم. فخلال السنوات الثلاث الماضية تصاعد خطاب' تحرر قطاع غزة' من الاحتلال مقابل استمرار الضفة الغربية تحت الاحتلال. وهو خطاب تطور مع واقع الانقسام, وفي خضم المناكفة الفصائلية بين فتح وحماس, في حين أنه لا علاقة له بالواقع الموضوعي, لأن الفلسطينيين في القطاع لا يستطيعون أن يتحكموا في مجرد' لقمة الخبز' أو' شربة الماء' من دون أن تسمح إسرائيل بذلك. ومكمن الخطر هنا أن مبادرة ليبرمان سوف تسمح لقطاع غزة بالتواصل مع العالم من دون السيطرة الإسرائيلية المباشرة, ما يعني أن خطاب' تحرر غزة' سوف يتعزز علي ضوء ذلك. ومن المتوقع بروز أصوات أكثر وأكثر تصور ذلك الانفصال انتصارا لحماس, وأنها نجحت بفضل' الصمود' في تحرير جزء من الأراضي المحتلة. وأن هذا الجزء سيستخدم كقاعدة لتحرير بقية الأراضي المحتلة. بل لنا أن نتوقع من يروج ل' الجزء المحرر' بأنه سوف يقام عليه' نموذج للحكم الإسلامي العادل' الذي يقدم المثال للعالم, تماما كما صرح بذلك وزير داخلية' حماس' في غزة بأن' التجربة الأمنية في القطاع تقدم نموذجا للعالم أجمع, وهي محل دراسة من الجميع'. ولنا أن نتوقع أيضا من قادة' تيار الاخوان المسلمين' في المنطقة- وحماس جزء منه- من يصور الأمر أمام قواعده وجماهيره, علي أنه انتصار للحركة الإسلامية, وأن' صمود أبناء الحركة في فلسطين' أفضي إلي تأسيس' جغرافيا سياسية' للإخوان, وهذا في النهاية تعزيز لهم في المنطقة, طلبا للحكم و'التمكين' في دائرة وأوسع. ثانيا: رغم أن حركة فتح تتحمل جزءا من المسئولية بشأن استمرار الانقسام, إلا أن هذا لا ينفي حقيقة أن' حماس' لا تريد أن تتخلي عن سيطرتها علي القطاع, وأن كل ما تبحث عنه هو تثبيت هذه السلطة والحصول علي الاعتراف العربي والدولي بها, والدليل علي ذلك هو أن' حماس' تعاطت بحماس شديد مع المقترحات التي تعزز انفصال غزة عن الضفة, مثل فتح ممر بحري بين غزة و العالم, ولم تتجاوب بنفس الشكل مع المقترحات التي تصر علي فتح المعابر بين القطاع وإسرائيل, وفتح معبر رفح وفقا لاتفاقية المعابر عام2005, التي تشمل مرابطة' الحرس الرئاسي' علي المعبر. ثالثا: في كل مقاربة' للمصالحة' تتعمد' حماس' الإبقاء علي عنصر القدرة علي التمرد في أي وقت تريد, ولأي سبب وتحت أي عنوان. ولأنها تدرك أن ذلك لن يتحقق إلا بوجود' الميليشيا الحزبية' داخل المؤسسة الأمنية, فقد أبدت' حماس' استعدادها لمقايضة تحفظاتها علي الورقة المصرية بشرط التقاسم الوظيفي الأمني, أي بحدوث قسمة بينها وبين حركة فتح لعدد الوظائف في الأجهزة الأمنية. في الخلاصة يمكن القول باختصار أن' ليبرمان' يدفع من خلال مبادرته تلك في الاتجاه المتوائم مع نوايا حماس تكريس سيطرتها الحزبية علي غزة. هو يريد إعطاء حماس'الإمارة' التي تبحث عنها ويحدث الأوربيين بذلك. وفي ذات الوقت هو يعلم أن في داخل' حماس' من تغريه هذه الفكرة, بل وتدغدغ وجدانه سواء بوعي أو بغير وعي. لذلك يجاهر ليبرمان الآن برغبته الضمنية في مقايضة' حماس', بقطع الطريق علي وحدة الأراضي الفلسطينية, مقابل القبول باستمرار سيطرتها علي القطاع, بل والاستعداد لتحويل' سلطة حماس' إلي سلطة سياسية مستقلة قادرة علي الحياة والاستمرار بقدراتها الذاتية. ولهذا ليس من المستبعد أن تبدأ إسرائيل في المدي المنظور بتنفيذ تدريجي لمسألة الانفصال ورفع يدها عن القطاع, مغلفة خطواتها وإستراتيجيتها تلك, بكونها استجابة لدعوات رفع الحصار, لنجد بعد ذلك في' حماس' من يصور تلك الكارثة علي أنها' انتصار' للحركة, ونتيجة طبيعية' لصمودها'..!!