وإذ نواصل دراستنا للكتاب الموسوعي البحث عن المعقول في الثقافة العربية لأستاذنا عاطف العراقي, فإننا نخوض بين صفحاته في محاولة للفهم والتعلم من كتابة عميقة محورها وجوهرها هو الدفاع عن العقل كأساس للوعي. ومن ثم كأساس للتقدم بهذا الوطن نحو آفاق الاستنارة والليبرالية والتحرر من المنقول غير المعقول, والسعي نحو العلم والحضارة بعيدا عن عوالم الخرافة والاساطير, فالعراقي يؤكد لنا وفي كل خطوة من رحلتنا معه نحو الاستنارة والتقدم لا مناص من الرجوع الي العقل لكي نواكب به تيار الحضارة وكي ندفع بأمتنا العربية الي الأمام, وان جعل العقل بمثابة الدليل والمرشد يعد قضية مصير, قضية ان نكون أو لا نكون ص97 ويفتش لنا د.العراقي عن ممكنات العقل وقدراته, وكيف انه السبيل الأمثل ليس فقط لفهم العالم ومكوناته, وإنما للنهوض بنا نحو واجبات التقدم والتخلص من التخلف. مؤكدا علي سبيل المثال ان العقل هو سبيلنا لرفض التطرف والتعصب, وعدم قبول الآخر مؤكدا العقلاني لا يتعصب لرأيه بأية صورة من الصور, فلا يمكن للإنسان ان يجمع بين العقلانية من جهة وبين التعصب من جهة اخري, ان التعصب لا يأتي إلا من معسكر اللامعقول ولايدلنا الا علي ضيق الأفق بل البلادة في الفهم ص56 تعالوا إذن لنمسك طرف الخيط الصحيح الذي يقودنا نحو التسامح وقبول الآخر واحترامه مهما اختلفت العقائد والأفكار, فنحن لم ندرك بعد ان المنبع الرئيسي للتطرف والمنبع الحقيقي لكل مشكلاتنا في مجال المواطنة والمساواة بين المواطنين جميعا بغض النظر عن الدين أو العرق أو الجنس أو الوضع الاجتماعي, هو إنكار العقل ودوره. والعقل يعني فوق هذا القدرة علي التأويل ويقول الدكتور العراقي اننا نلاحظ ان درجة الاقتراب والابتعاد من العقل إنما يحددها مدي التزام المفكر أو ابتعاده عن التأويل. ص.57 فالرضوخ أمام ظاهر النص يعني إغلاق باب الفهم لما غمض من هذا النص, فاستخدام العقل ينزه الناس عن تصورات خاطئة, ومن هنا وجب ان يتوقف الفقهاء أمام آيات مثل قوله تعالي بل يداه مبسوطتان وقوله تعالي يد الله فوق أيديهم والمسلمون يؤمنون بأنه تعالي ليس جسما وليس في جهة معينة ومن هنا وجب التأويل. ص106, حتي يمكن ان يطمئن القلب الي فهم الآيات فهما صحيحا. ويقدم لنا د.العراقي عدة تفسيرات لكلمة تأويل فمن معاني التأويل إذا أدخلنا في الاعتبار المعني اللغوي إرجاء الشيء إلي اصله, وقد استخدم في مجال القرآن الكريم بصفة خاصة بمعني التفسير, ومن هنا كان المقصود بالتأويل هو إظهار أو كشف المراد من النص لكن المؤلف يعود ليحذرنا من الخلط بين التأويل والتفسير فالتفسير عادة ما يتعلق بشرح الألفاظ والمفردات أما التأويل فإنه ينصب اساسا علي الجمل والمعاني كما يعود الي ابن رشد ليحدد لنا معني التأويل ففي كتابه فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال يقول: إن معني التأويل اخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية الي الدلالة المجازية ص.57 كما يحدد الجرجاني التأويل ويفرق بينه وبين التفسير ويقول في كتابه التعريفات إن التأويل في الأصل هو الترجيح وفي الشرع هو صرف اللفظ عن معناه الظاهر إلي معني يحتمله إذا كان هذا المحتمل موافقا الكتاب والسنة مثل قوله تعالي يخرج الحي من الميت فإن أراد به إخراج الطير من البيضة كان تفسيرا, وإذا اراد اخراج المؤمن من الكافر أو العالم من الجاهل كان تأويلا, وجوهر ما يريده الدكتور العراقي من طرح قضية التأويل هو اننا اذا أردنا الربط بين الماضي والحاضر والمستقبل فلا مفر من الاعتماد علي التأويل, وإذا قمنا بسد الطريق الي التأويل فمعني هذا اننا قلنا للعقل وداعا, ومعني هذا اننا سنجد تراثنا وكأنه لافائدة منه في حياتنا الحاضرة أو في المستقبل ويؤكد ويلاحظ ان أكثر المفكرين تمسكا بالقيام بالتأويل هم أكثرهم تمسكا بالعقل, وبالتالي فإن اقل المفكرين لجوءا الي التأويل هم الذين لايسمحون للعقل بدور واضح. ص58 لكن الدكتور العراقي لا يكتفي بالشرح الفلسفي ولا بالدعوة الي العقل كمعيار للحقيقة وكرادع للتطرف والتعصب وإنما يقتادنا نحو أوضاعنا الحالية ونقرأ ان عالمنا العربي يملك طاقة اقتصادية هائلة, ومن واجبنا تسخير تلك الطاقة وتوجيهها بحيث تحقق نظاما ثقافيا في المقام الأول, فالثقافة هي الاساس, وهي ما يمكن ان يؤدي الي الترابط بين الشعوب العربية بما يقيم أساسا للوحدة الثقافية, وليتنا نخصص جزءا كبيرا من دخل البترول في ارساء قواعد التنوير الفكري والثقافي, بحيث نتجنب تماما كل الأفكار الرجعية المتطرفة والفكر المغلق, وهل يستطيع الانسان ان يتنفس إلا في الهواء المتجدد, ان الفكر الذي لا يتخذ من التنوير اساسا له يعد فكرا ميتا يصيب الانسان بالاختناق, ويمضي د.العراقي في نسج حلم جميل وجديد للعرب جميعا يقوم علي أساس النزعة الانسانية التنويرية التي يجب ان تكون سائدة في مدارسنا وجامعاتنا ووسائل إعلامنا وكتابات مفكرينا, فالنور يرتبط بالتقدم والسير الي الأمام والظلام يرتبط بالتأخر والرجوع الي الوراء والصعود الي الهاوية. ويلخص العراقي كل حكمته وأهدافه وأحلامه في عبارة تستحق ان تكتب بماء الذهب في مقدمة كل كتاب وكل كتابة المثقف هو الكائن الاجتماعي الذي لابد أن تكون أفكاره مؤدية الي سعادة وتقدم مجتمعه, ولن يتحقق تقدم مجتمعنا الا اذا كان رائدنا هو العقل, وطريقنا هو التنوير وخصائص ثقافتنا تتمثل في البعد التقدمي أصلا. ص35 شكرا يا أستاذنا, ولعل من حقك ان نزهو بفكرك, وان نسعي كي نكون جديرين بالتتلمذ علي يديك.