رأيت فيما يري المنتبه سنوات عمري وهي تصطف أمام عيوني. فوجئت برؤية كل عام من تلك السنين, وهو يتجسد في خيالي علي هيئة صورتي الشخصية كما كنت أحيا في أيام أي عام منها. حدث ذلك عندما رقدت رغما عن أنفي علي سرير في غرفة عمليات شديدة الحداثة, بعد ان داهمتني أزمة قلبية بسبب اقتراب ثلاثة شرايين من الانسداد. تساءلت كيف يمكن لي ان أري مافات من أيامي متجمعا علي هذه الهيئة الفريدة, فلم أعد سوي ذلك الراقد المتفرج علي نفسي وقد توزعت سنوات العمر علي أجساد عديدة تصطف وكأنها حرس شرف عجيب وغريب, وكأن سنوات العمر المتجسدة ترغب معي في رؤية الألم وهو يرحل من قلبي. قلت بصوت مرتفع للأستاذ الدكتور هل تم حقني بنوع من التخدير الذي يجعلني متيقظا ومشاهدا لما دار في سنوات عمري, فضلا عن رؤية تلك الإبرة الصغيرة المتجولة من شريان فخذي الأيمني لتصل الي قلبي؟ لم يجبني, فقد كان مستغرقا في العمل مع فريقه العلاجي كي يصل الي مواقع انسداد الشرايين وكأن في يده بلدوزر صغير يقوم برصف الكلوسترول المتجمع علي جدران الشرايين, ليسهل من بعد ذلك تركيب أنابيب رفيعة تسمي الدعامات, كي يستمر تدفق الدم لتغذية القلب ولتستمر الحياة. وكان علي عيوني أن تمعن النظر لرؤية مايجري داخل قلبي عبر ثلاث شاشات صغيرة معلقة فوق الجميع. لم يجبني أحد عن سؤالي عن التخدير, فآثرت أن ارقب سنوات عمري التي أضافت لشراييني كل تلك الكمية الهائلة المطبات التي تعوق تدفق الدم في الشرايين. رأيت صورتي وأنا في السادسة من العمر, حين أمرني شيخ ضرير بأن أمد يدي لينزل عليها ضربا بخرزانة رفيعة, لأني لم أحفظ بعضا من آيات القرآن, وكان يصرخ في وجهي أنا حفظت القرآن كله وعمري سبع سنوات, ولم اطق صبرا علي ضربه لي بالخرزانة, ولمحت شباك الفصل مفتوحا, ولما كان الفصل في مستوي أرض الشارع, لذلك أسرعت إلي القفز منه صارخا في الشيخ سأشكوك إلي الله لأنك لم تشرح لي معني مايجب ان أحفظه. وكان ذلك هو آخر يوم لي في تلك المدرسة الأولية, والتي نقلني منها والدي إلي مدرسة أخري لا يتم ضرب التلاميذ فيها. رأيت نفسي وأنا في السابعة عشرة, حين تلامست يدي مع يد من أحب ونحن نركب عربة حنطور, لتسير بنا علي كورنيش الإسكندرية, بينما دقات أقدام الحصان تعزف موسيقي شديدة الحيوية لتصحبنا بالخيال إلي كوخ سماوي مغزول من نتف السحاب الأبيض المتهادي علي سماء الميناء الشرقي بالشاطبي, لنعيش فرحة الحب الأول بكل براءته. رأيت نفسي في التاسعة عشرة وأنا واقف أمام إحسان عبدالقدوس وهو يلقني أسرار العمل الصحفي, فيقول لي الخبر هو قصة قصيرة جدا, يقوم الواقع بتأليفها فيلتقطها الصحفي لينقل الي القارئ تفاصيل مايدور حوله من أحداث, ثم يلقنني الروائي العبقري فتحي غانم حقيقة أن كل جيل قادم يملك براءة وجراءة وقدرة علي امتصاص خبرة من سبقوه بسهولة, فلا يجب علي أحد الادعاء بامتلاك الحكمة لمجرد أنه أكبر في العمر, ولابد أن تنتبه إلي أن أيا من ينتمي للجيل الشاب عليه ألا يقلل من قيمة خبرات من سبقوه, لأنه لن يتطور إلا بما يستوعبه من تلك الخبرات. رأيت نفسي وأنا في الرابعة والعشرين جالسا أمام الفيلسوف الفرنسي ماكسيم رودنسون وهو يقول لي أخطر مايصيب أي فكرة هو عدم إخلاص من يرثونها, فتاريخ تطبيق الأفكار هو تاريخ الإساءة إلي تلك الأفكار, وأنظر إلي تطبيق دول المعسكر الاشتراكي للعدالة حيث تم تزوير هذا التطبيق فعاش أعضاء الحزب الواحد حياة مرفهة, بينما عاني بقية السكان من ضنك مضاف إليه قهر عدم القدرة علي إبداء الرأي, تماما كما أن تطبيق نظريات الاقتصاد الحر أخذت جانب الربح في رؤية آدم سميث آبو الاقتصاد الحر, وتركت الجانب الأخلاقي الذي نادي به الرجل, هذا الجانب الأخلاقي الذي يفرض المسئولية الاجتماعية علي كل صاحب مال. ورأيت نفسي وأنا في الثلاثين جالسا مع فنان الإسكندرية الأشهر المصور العبقري سيف وانلي وهو يتأمل معي تاريخ حياته وجدت نفسي مؤمنا بأن البحر المتوسط ليس إلا بحيرة صغيرة, تنتقل عبر أمواجه الأفكار, فحين كان الشرق متقدما انتقلت الحضارة منه إلي الغرب, وحين تقدم الغرب صار علي الشرق أن يشرب من ضوء الحضارة ما يحقق له النمو والازدهار, ولاشيء يحقق النمو والازدهار إلا استيعاب العلوم وإبداع الفنون. رأيت نفسي عبر سنوات العمر وأنا أسبح بين امواج الحياة غير منتبه إلي ماتضيفه الخبرات المؤلمة لشرايين القلب من تراكمات غير مرئية, ولكني كنت في غاية الانتباه الي ماتضيفه الخبرات الطيبة من افراح وانتصارات, أما الانكسارات فقد داريتها بين تراكمات الكلوسترول دون انتباه مني إلي الجريمة التي ارتكبتها في حق نفسي حين لم أنتبه إلي خطورة ذلك, فقد تجمعت الانكسارات لتصيبني بضيق الشرايين الذي دفعني إلي تلك المنضدة العجيبة التي يتم علاجي عليها. انتهي فريق العلاج من تركيب دعامات ثلاث في شرايين القلب, لأفيق وأسأل الطبيب كيف دربت تلاميذك علي تلك الآلة الغريبة التي تتجول بها إبرة القسطرة لتزيل أوجاع السنين؟ قال لي الطبيب: الأمر في غاية السهولة إن رضخ الإنسان لاستيعاب الجديد في العلم نظريا وعمليا. ولم يقل الطبيب المعالج إن ثمن معدات تلك الغرفة تتجاوز المليون دولار, وإنه قرر شراءها عندما وصله شيك قيمته مليون دولار كهدية شخصية له من احد القادرين بعد ان عالجه من أزمة قلبية, فلم يفكر في تجديد سيارته أو شراء بيت غير الذي يسكنه, بل لحظتها ان يشتري بالمليون دولار تلك الأجهزة ليهديها الي وحدة الرعاية الحرجة ولتعمل في خدمة هذا المجتمع. قال لي د. شريف: أحلم بأن نصل في التعليم الطبي الي مستوي صناعة مثل هذه الأجهزة, فلا يكفي ان نستوردها فقط, وهذا الحلم ليس مستحيلا بل هو حلم ممكن للغاية. ولم يقل إننا منذ خمسة وعشرين عاما لم يكن في مصر كلها أي علاج لمثل حالتي إلا بجراحة قلب مفتوح, ولكن إخلاصه المقترن بالتصوف من محبة العلم والبشر هي التي أوجدت علي خريطة هذا الوطن ما صرنا نسمع عنه ونستفيد منه وأعني به علم الرعاية الحرجة. وعلي سرير بالمركز الذي بناه هذا العالم الجليل طوبة طوبة وحيث قام بتعليم عشرات التلاميذ فيه فنون صيانة القلب, علي هذا السرير رأيت خريطة أعماقي في الداخل وشاهدت سنوات عمري وهي تتجمع من جديد لتعود الي مواقعها في خريطة حياتي, بعد أن تمت عملية تجديد شرايين القلب. هل توجد كلمات شكر لرجل أضاف كل ذلك؟. المزيد من مقالات منير عامر