حين يخوض الناس في أي ميدان من ميادين العلم, الدينية أو الدنيوية ثم يتعثرون أو يخطئون, فهم في هذا الخطأ فريقان: فريق يعتريه الخطأ بعد أن يكون قد أعد للأمر عدته, واستنفد فيه مهارته وخبرته. دون إهمال أو تقصير فيكون خطؤه حينئذ مغفورا, ومعفوا عنه, وفريق ثان يقتحم الأمر في تهور ونزق, دون أن يعد له عدة, أو يكتسب له مهارة أو خبرة فيكون خطؤه خطيئة, وتهوره واندفاعه إثما وجريمة! هكذا يكون الفرق بين الاجتهاد وادعاء الاجتهاد وبين المجتهد حين يخطيء فيكون له بمقتضي الحديث النبوي الصحيح ثواب وأجر وبين مدعي الاجتهاد الذي يقتحم الميدان ببضاعة من العلم مزجاة,فيفتري علي الله الكذب, فيكون خطؤه حينئذ جرما وإثما يستحق عليهما العقاب! في إشارة عميقة الدلالة إلي المسئولية العظمي التي يضطلع بها المجتهدون سمي الإمام الغزالي: الاجتهاد استثمارا كما سمي المجتهد: مستثمرا لكي يلفت النظر إلي أن الاجتهاد ليس انسياقا مع الخواطر العابرة ولا انقيادا للأفكار الشاردة, بل هو اعتصار للذهن وكد للعقل علي أن ينكب علي المصدرين الرئيسيين الكتاب والسنة مستلهما هديهما في العثور علي رأي الشرع فيما يطرأ علي المسلمين من نوازل الوقائع التي لم يرد لها ذكر في هذين المصدرين الرئيسيين, والتي تطرأ علي تيار الحياة المكتظ بالأحداث. ومن البدهي حينئذ أن لا تكون ثمرة هذا الاستثمار ناقضة للأساس الذي انطلقت منه ولا هادمة لأولياته وقطعياته, ومن العبث أيضا أن يتوجه هذا الاستثمار بالبحث فيما فرغ منه هذان الاصلان بحكم قطعي صريح. فهل يعقل أن يستثمر المجتهد تلك الأصول الإسلامية من الكتاب والسنة من قبل أن يحصل أدوات الاستثمار التي يستعين بها في فهم تلك الأصول من معرفة متواترها وآحادها؟ ثم هل يستطيع ذلك المستثمر أن يخطو الخطوة الأولي في رحلة الاستثمار دون أن يحيط علما بما انتهت إليه أجيال متعاقبة من العلماء أفنوا في فهم هذين المصدرين وفي استخلاص أحكامهما, اعمارا وابصارا؟ هل يمكن أن ينفصل العلم عن تاريخ العلم؟ هل يعقل أن يدعي امرؤ لنفسه الاجتهاد, دون أن يقلب النظر فيما انتهي إليه السابقون, لكي يقبل ما يقبل عن بينة, ويرفض ما يرفض عن بينة. إن الملكة الذهبية والحاسة العلمية في أي ميدان من ميادين العلم, لا تتولد إلا من الدأب علي معرفة الآراء التي يتكون منها صرح هذا العلم ومعرفة اختلافات بناة هذا الصرح بعضهم عن بعض, ومن لم يعرف اختلافات الفقهاء كما قال بعض المحققين لم يشم رائحة الفقه! علي أنه ينبغي أن يفهم أن هذه القيود المتعددة والشروط المتكثرة التي لابد من توافرها في المجتهد لا تعني اغلاق منافذ الاجتهاد, وانسداد أبوابه فالاجتهاد في الإسلام واجب محتم, تحمل الأمة كلها مسئوليته علي كاهلها وهو واجب دائم بمقتضي خاتمية الإسلام للرسالات السماوية, لكن ينبغي أن يفهم أيضا أن الاجتهاد في جوهره يعني ايقاع حكم الله تعالي علي الأحداث والوقائع وليس مجرد قول مرسل, أو رأي دارج, ومن هناكان الحرص علي أن توضع أمانة هذا الاجتهاد في رقاب العارفين بثقلها الحراص علي مهابتها ومكانتها, المتهيبين من الاجتراء والتسرع فيها, فلقد كانت الأجيال الاولي من الفقهاء تتخرج من الاضطلاع بهذه الامانة وتتأني في النظر فيها وتمحيصها فيدفعها كل منهم إلي الآخر ظنا منه أنه أكثر منه علما وأعلي فهما! كما ينبغي أيضا أن يتمتع المستثمر بملكة التوازن بين الأطراف المتقابلة وتلك مهمة تحتاج إلي اناة وتبصر وإحساس مرهف بالرقابة الإلهية لا يفتر ولا يغيب, فالنصوص الثابتة والواقع الزاخر بالأحداث طرفان متقابلان يقتضي التوازن بينهما ضربا من الحكمة وسداد البصيرة بحيث لا يجنح المستثمر إلي تأويل متعسف للنصوص الثابتة, ينتهي بها إلي أن تكون تبريرا للواقع بانحرافاته وسوءاته, وبحيث لا يكون غافلا عن تكييف الواقع بضروراته ومتطلباته في الآن نفسه. والتشديد والتيسير أيضا: طرفان متقابلان يحتاج التوازن بينهما إلي وسطية ايجابية لا تميل بالحكم الشرعي كل الميل إلي جانب الرخص علي حساب العزائم, ولا إلي العزائم علي حساب الرخص, فالعلم كما يقول سفيان الثوري الرخصة من الثقة أما التشديد فيحسنه كل أحد. وأكبر الظن إن لم يكن أكبر اليقين أن الأمة الإسلامية منذ عصورها المبكرة شعرت بما يمكن أن يخطئ فيه المجتهد الفرد حين ينفرد بالاجتهاد فلا يري من الواقعة التي يراد بيان الحكم الشرعي فيها إلا جانبا واحدا, مع الغفلة عن بقية الجوانب, لذلك لجأت الأمة إلي جماعة المجتهدين ليصوب بعضهم رأي بعض في ضوء الأدلة الشرعية والقواعد الأصولية, فها هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه يسأل الرسول صلي الله عليه وسلم إن الأمر ينزل بنا بعدك, لم ينزل به القرآن ولم نسمع منك فيه شيئا فيقول له الصادق المصدوق صلي الله عليه وسلم اجمعوا له العابدين من المؤمنين واجعلوه شوري بينكم ولا تقضوا فيه برأي واحد. فهل آن لنا أن نضع مهمة الاجتهاد في مكانتها السامقة, ومهابتها الشاهقة ونصونها من عبث العابثين وادعاء المدعين !