ألا تعتقد بأن رفع الأذان في الدنمارك يعد بمثابة عدوان ثقافي عليهم ؟!'. هكذا طرح الرجل السؤال ردا علي سؤالي حول تفسيره للتحول الذي شهدته العلاقات بين العالمين الغربي والإسلامي. من فترات ود واحترام في صدر الإسلام إلي العكس من جانب الغرب,حتي من قبل خروج المسلمين من الجزيرة العربية, وهل من سبيل لاستعادة هذا الود والاحترام المفقودين؟ وحيث إن إجابة السيد إريك برجير رئيس تحرير الصحيفة اليومية المسيحية كريست داجبلات الدنماركية جاءت في اتجاه مغاير لسؤالي, ناهيك عن كونها جاءت في شكل سؤال ولا جواب, فإنني أجبته بسؤال أنا الآخر, حيث قلت له:'... علي مر العصور ارتفع صوت أجراس الكنائس في سماء مصر وغالبية دول العالم الإسلامي, ولم نتصور للحظة كمسلمين أن ذلك عدوان علي الأغلبية; بل إن الكثيرين يستمتعون بصوت الأجراس, فلماذا تتعاملون مع الأذان علي كونه عدوانا علي الأغلبية, مع التسليم بأن رفع الأذان ليس من أركان الإسلام؟'. صمت الرجل برهة قبل أن يقول:' هذا يعني أنكم في مصر والعالم الإسلامي أكثر تسامحا منا, وقد يكون السبب في ذلك طول فترة التعايش المشترك بين المسلمين والمسيحيين في بلادكم'. قلت للرجل:' قد يكون, ولكن السبب الرئيسي هو أن صحيح ديننا يلزمنا بالاعتراف بالآخر, وبالتالي, يلزمنا باحترام عقيدته. وحتي إن لم يحب البعض منا تراث الآخر, فإنه ملزم باحترامه, ومن لا يلزمه دينه, فالقانون الوضعي يلزمه'. كنا خمسة مصريين ممثلين لصحف عربية. كان المقصد الدنمارك, وذلك لرصد الجهود التي تبذلها تلك الدولة الإسكندنافية التي لا يتعدي تعدادها ال5.5 مليون نسمة لكي تدمج في قلبها5% من تعداد سكانها من أصول عربية ومسلمة. وبالرغم من كونها دولة علمانية100%, وبالرغم من صغر تعدادها السكاني, إلا أنك تفاجأ بوجود صحيفة يومية مسيحية كانت مقصد الوفد الصحفي العربي في مقرها بكتدرائية نيكولا التي تعد من أقدم الكتدرائيات بالدنمارك والتي توقف العمل بها كدار للعبادة في بداية القرن ال19, وتحولت إلي معرض فني! الصحيفة تعني بقضايا عامة من منظور مسيحي, بما في ذلك قضايا اندماج العرب والمسلمين في المجتمع الدنماركي, وذلك في إطار الزيارة التي نظمها معهد الحوار الدنماركي المصري للإطلاع علي الشوط الذي قطعته الدولة علي طريق تأسيس حوار ثقافي وحضاري يستهدف أول ما يستهدف اندماج الأقلية الدنماركية من أصول عربية ومسلمة في مجتمعها الجديد, مع الحفاظ علي هويتها الأصلية. وإذا كنا قد بدأنا بما بدا تناقضا بين علمانية دولة شعبها محدود التعداد, وبين وجود صحيفة مسيحية بها, فإن تضاعف توزيع الصحيفة إلي120 ألف نسخة يوميا علي مدار السنوات الأخيرة الماضية بالرغم من تراجع أرقام توزيع الصحف في أوروبا, يبدو تناقضا ظاهريا آخر! في الوقت ذاته, فإنه بالرغم من علمانية الدولة, فإن أكثر من80% من أفراد الشعب هم أعضاء في الكنيسة اللوثرية البروتستانتية التي يتبعها غالبية الدنماركيين, وهي نفس النسبة التي تدفع ضرائب منتظمة للكنيسة تحصلها الدولة نيابة عن الكنيسة, ومع ذلك فإن2% فقط من ال80% هم الذين يذهبون للكنيسة يوم الأحد! ولكن السؤال هو: كيف يمكن لمجتمع يدين بالعلمانية مذهبا في الحياة, والبروتستانتية دينا أن يجمع بين هذه المتناقضات الظاهرية؟! رئيس التحرير يفسر ذلك بأن غالبية الشعب باتت تتبني مبدأ الاعتصام بالإيمان بالكنيسة دون الانتماء لها أو تملكها لهم! ثم عرج الرجل علي ما بدا مؤخرا اهتماما مجتمعيا مفاجئا بالدين سواء كان المسيحي أو الإسلامي, وتفسير المشكلات القائمة مع المسلمين من المهاجرين, بالرغم من أن14% من الدنماركيين فقط يؤمنون بقيامة السيد المسيح, حيث قال إنه حتي30 عاما مضت كان95% من غالبية مواطني الدنمارك من العرق النوردي المسيحيين البروتستانت, وهو الأمر الذي يتغير حاليا, حيث يقول:' إن معدل الإنجاب في الدنمارك تراجع لدرجة أننا ننقرض سكانيا, وبالتالي ثقافيا, في الوقت الذي نستقبل فيه موجات من الهجرة خاصة من دول إسلامية وعربية, وهو ما يمثل تحديا ثقافيا قويا سواء للمواطنين الأصليين وللمهاجرين أنفسهم, وهو ما نواجهه ببرامج لدمجهم سويا في المجتمع, وهي برامج تتعامل مع الأسباب الحقيقية للمشاكل وهي اجتماعية واقتصادية, والدليل علي ذلك إقامة20 مدرسة إسلامية خاصة تدعمها الدولة, وعدم التضييق علي بناء المساجد'. ويبدو أن أزمة الرسوم المسيئة مازالت تسيطر علي أفئدة المسئولين في الدنمارك بأكثر مما تسيطر علي أفئدة مسلمي العالم الاسلامي, حيث كان أول ما بادر به هوجنز بلوم مسئول برامج الشراكة العربية الدنماركية في وزارة الخارجية أن قال إن برنامج الشراكة بدأ في عام2003 ثم تعرض لأزمة عنيفة عقب نشر الرسوم المسيئة في2006 إلا أنه بعد جهود مكثفة عادت الأمور لنصابها, بعد أن أدركنا وشركاؤنا العرب أهمية استمرار الشراكة. وإذا كان جميع من التقيناهم من مسئولين رسميين وغير رسميين اجتمعوا علي ضرورة اندماج الجالية العربية المسلمة في المجتمع, فإن أكثرهم حماسة وانفتاحا علي هذا المفهوم كان في رأي عمدة كوبنهاجن المسئول عن برامج الاندماج الذي يقول إن خطة الاندماج لا تميز بين المهاجرين والأقليات العرقية ولا حتي بين المثليين, مؤكدا أنه واحد من هؤلاء المثليين. وأضاف إنه تم توظيف أعداد كبيرة من المهاجرين وتسكينهم خلال السنوات الثلاث الماضية, مؤكدا أن كلفة عدم الاندماج لا تطيقها الدولة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا. وأوضح أن الهدف من الاندماج هو ترسيخ مباديء المساواة والانتماء والاحترام المتبادل للخصوصية; فلماذا أحترمك إذا لم تحترمني؟! ويقول الرجل' إننا نحاول اقناع المهاجرين بأنهم يجرمون في حق أبنائهم بحرمانهم من مقومات النجاح من التعليم الجيد واللغة في وطنهم الجديد, ومن أن هذه المقومات ستتيح لأبنائهم فرصا أفضل للعمل وهو أهم وسيلة للاندماج في المجتمع'. وأوضح أنه شخصيا غير مؤمن, إلا أنه حريص علي التفاعل ثقافيا مع المسلمين, واحترام قيمهم الدينية مثل حجاب المرأة, كما تحرص الدولة ممثلة في البلدية علي الاحتفال بأعياد الجميع بداية من شهر رمضان المبارك ووصولا لأعياد اليهود, ناهيك عن تشجيع الدولة المهاجرين علي تقديم الشكوي في حال تعرضهم للتمييز بأي شكل. وقد يجادل البعض بأن ما ورد علي لسان المسئول الدنماركي هو مجرد كلام نظري, إلا أن تجربة قضاء يوم دراسي كامل في مدرسة غولسمان العامة التي تضم600 طالب في مختلف مراحل التعليم حتي الثانوي, وينتمي طلبتها لمختلف الديانات من الإسلام إلي المسيحية بمختلف كنائسها مرورا بالبوذية ووصولا إلي الهندوسية أكدت لي العكس! فالسيدة ليزا مديرة المدرسة, نموذج للعرق النوردي الاسكندنافي سواء من حيث البشرة شديدة الشقرة أو العينين الشديدتي الزرقة, إلا أنها تعشق استيعاب الثقافات الأخري والأعراق التي تحملها. الغريب أنه بالرغم من كون المدرسة حكومية عامة, إلا أن22% فقط من طلبتها دنماركي الأصل, في حين أن27% عرب, و16% أتراك, و16% باكستانيون, و3% صوماليون و14% جنسيات أخري, وهم جميعا موزعون علي36 دولة, أي أن85% من طلبة المدرسة من غير الدنماركيين! تقول السيدة ليزا:'... نحن لا نسعي لمحو الهويات الأصلية لأطفال المهاجرين, ولكننا نحاول إكسابهم الهوية الدنماركية, ومن ثم فإن أفضل مكان لتحقيق ذلك هو المدارس العامة, وليس الخاصة التي تعزل أكثر مما تجمع, كما أنها تشطر المجتمع إلي قسمين: الأول للمواطنين الأصليين, والثاني للمهاجرين...'. وكشفت المديرة عن تفوق أبناء المهاجرين علي أبناء الدنماركيين الأصليين, وهو ما يؤكد أهمية الاختلاط والتعلم من الغير, مشيرة إلي أن30% من الأطفال في الدنمارك حاليا ينتمون إلي ثقافات مختلفة. ويبدو أن الأصل الفلسطيني لمحمد الطالب في الصف الثامن السنة الثانية من المرحلة الإعدادية المولود بالدنمارك ويتحدث العربية بطلاقة, قد أكسبه نضجا تجاوز سني عمره القليلة, حيث رد علي سؤال عن شعوره بالانتماء, قائلا:'... أصلي الفلسطيني يجعل نصفي في العالم العربي, ونصفي الآخر في الدنمارك...!' مسارات اندماج الجالية العربية والمسلمة مع مجتمعها الجديد في الدنمارك لا تقتصر علي تربية النشء من خلال التعليم, وإتاحة فرص العمل, وبرامج الشراكة, ومكافحة التمييز, وإنما تمتد لتشمل مسارات غاية في الأهمية أخري مثل الإعلامي الدنماركي العربي المحلي, وهو ما يؤكد صدق الدولة في رغبتها في سد الفجوة السكانية المتزايدة لديها لأسباب الثقافة الإنجابية المتراجعة جنبا إلي جنب مع ضمان السلام الاجتماعي وتفادي ارتطام حضاري وثقافي داخلي. هذه الرغبة الصادقة تصحبها جهود دءوب, وإن كانت تتعرض من وقت لآخر إلي هزات; فالدنمارك في النهاية لا تعيش بمعزل عن محيطها الأوروبي الغربي, ولا عن العالم ككل, وتلك قصة أخري...