في الماضي كانت شخصية' الجنتلمان' هي التي تستحوذ علي إعجاب الناس واحترامهم. أما اليوم فقد صارت شخصية البلطجي في مجتمعنا هي محط الأنظار وظاهرة تستحق الدراسة. وقد تطور معني الكلمة كثيرا منذ أن كانت هناك فرقة' البلطجية' في الجيش التركي وهم الجنود الذين يستخدمون البلطة لأغراض الهدم والقتال. وهناك رواية تقول إنه مع تطور الأسلحة تم تسريح هؤلاء الجنود فخرجوا دون عمل وبدأوا في ممارسة العنف للحصول علي قوتهم اليومي. فاتخذت الكلمة معني من يستخدم القوة البدنية وقهر الآخرين في حياته اليومية. أما الآن فإن البلطجي لم يعد بحاجة إلي استخدام البلطة أو أي سلاح آخر.. بل لم يعد حتي في حاجة إلي استخدام يديه لإرهاب وترويع الآخرين. فأسلحة البلطجي الحالية هي السباب والشتائم والتهديد والوعيد والابتراز لكي يحصل علي مكاسب وامتيازات ليست من حقه. سلاحه الرئيسي هو لسانه الذي يؤذي به الآخرين ويلوث به سمعة الناس ويثير به الرعب في قلوب العباد. ولب المشكلة أن البلطجي أصبح شخصا مرهوب الجانب في مجتمعنا ويعمل له الجميع ألف حساب.. والأخطر أن الكثيرين يتعاطفون معه ويؤازرونه ويشجعونه بسلبيتهم علي التمادي في بلطجته. وقد وصل الأمر إلي أن البعض يصفق للبلطجي وكأنه' شجيع السيما' الذي ينتصر علي خصومه بالضربة القاضية. ونجد اليوم بعض الشخصيات البارزة والمؤثرة في المجتمع تمارس البلطجة في وضح النهار ولا يجد هؤلاء من يردعهم ممن يملك السلطة. فهناك مثلا محام شهير فهم اللعبة وأدرك أن الصياح والتهديد هما الوسيلة المثلي للوصول إلي أغراضه ويؤكد كلما تعرض له أحد أنه يملك تحت يده ملفا كاملا لإدانة هذا الشخص الذي تجرأ وتصدي له. والنتيجة أن الكل يتحاشاه وينفذ له طلباته وتنفتح أمامه أبواب المسئولين علي مصراعيها. وهناك مدرب رياضي شهير شاهدته علي' يوتيوب' يعتدي علي ممثل الفيفا في إحدي المباريات ويضرب إحدي الطاولات في الملعب بقدمه فيطيح بها وهو يصرخ ويدب الأرض ويعترض علي الحكام والمسئولين. وقد اعتاد في كل مباراة يخسرها فريقه علي إثارة الشغب وتهييج مشاعر الجمهور وتحريضه علي العنف. والمصيبة هي أنه مع كل ذلك يحظي بمكانة كبيرة في الوسط الرياضي ويعتبرونه من أفضل المدربين. وبعض مقدمي البرامج في التلفزيون يحترفون البلطجة الكلامية ويكشرون في وجوه ضيوفهم ويخيفون كل من يقترب منهم. وانتعش بعض هؤلاء وترعرعوا في أعقاب مباراة مصر والجزائر في الخرطوم وخرجت من أفواههم بذاءات لا تجوز وتهجم ليس علي الشعب الجزائري فحسب وإنما حتي علي دولة السودان الشقيقة التي احتضنت المباراة, والمصيبة أنه لم تتم محاسبة أي واحد من هؤلاء أو توجيه أقل اللوم لهم. وبالتالي فقد أدركوا أنه إذا كانت الجريمة لا تفيد.. فإن البلطجة تفيد, والدليل علي ذلك أنهم قد جنوا ثمارها بالفعل. وبعد أن نجح البلطجية الجدد في تهييج مشاعر المواطنين انتهي الأمر كما نعلم بإدانة الفيفا لاتحاد كرة القدم المصري في هذا الموضوع. وهناك بعض الصحف الخاصة تمارس أسوأ أنواع البلطجة المعنوية والنفسية القائمة علي الابتزاز والتشهير بسمعة المواطنين, ويظهر بعض مسئوليها في التلفزيون يقدمون فواصل من الردح العلني ويلوحون بأيديهم ويوجهون الاتهامات في كل اتجاه فيعجب بهم الكثيرون باسم حرية الرأي والتعبير. والبلطجية الجدد يضربون عرض الحائط بكل القيم الأخلاقية والأعراف التي كان يتمسك بها الناس حتي وقت قريب. وهم يتمادون في كل ذلك لأنهم يجدون أنفسهم في بؤرة الاهتمام العام. وهم لا يعبأون إن تعرضوا للسب والهجوم لأنهم يلتزمون بمنطق الملاكم الذي يتحمل بعض الضربات علي أن يوجه لخصمه ضربات أقوي وينتصر في النهاية. وكنت في يوم بمكتب أحد كبار المسئولين ودخل أحد أشهر' البلطجية الجدد' في مصر وأخذ يتحاور أمامي مع المسئول. وعندما احتدم الجدل قال الرجل حرفيا: أنت تعرف كم خدمتك من قبل.. لكنه يبدو أنه' مايتمرش' فيك.. وتصورت أن المسئول سيؤاخذه أو يطرده من مكتبه.. لكن كل ما حدث أنه لاحت علي وجهه ابتسامة صفراء وكظم غيظه وانتهي الأمر. يكاد البلطجي اليوم أن يكون قدوة يحتذي بها من منطلق أنه عرف طريق النجاح وكيفية الحصول علي حقوقه في حين أن الملايين يجدون أن حقوقهم ضائعة ويشعرون بالعجز والإحباط. وإذا تعرض أحد هؤلاء البلطجية لحادث أو لوعكة صحية نسمع أن كبار المسئولين قد اتصلوا به للاطمئنان عليه, وهو بمثابة تشجيع رسمي أو شيك علي بياض لكي يستمر في طريق البلطجة. وطبعا يظهر البلطجي بعدها علي شاشات التلفزيون فيشكر بالاسم كل المسئولين الذين تفضلوا بالسؤال عنه حتي يثبت للجميع أنه' مرضي عنه' فيزداد خوفهم من بطشه. فما هي الرسالة التي يوجهها المجتمع للناس وخاصة الشباب عندما يسكت علي مثل هذه الأوضاع؟ الرسالة ببساطة هي أن الحصول علي الحقوق والامتيازات لا يمر بالقانون بل إن القانون كثيرا ما يعرقل الحصول علي الحقوق, وأن هناك طريقا موازيا أقصر وأكثر فاعلية وهو البلطجة وإظهار العين الحمراء ولي الأذرع. لقد استفحلت ظاهرة البلطجي بصورتها الجديدة في المجتمع. فالبلطجي الذي كثيرا ما يبلغ درجة عالية من الفجر يحترمه الكثيرون ويفسحون له الطريق ويتردد اسمه علي كل لسان. لم يعد البلطجي يقابل كما كان في الماضي بالازدراء والرفض من المجتمع.. فهو عادة ما يجد من يبررون كل انحرافاته وممارسته المتجبرة. وإذا كانت الدولة تشجع البلطجة عن طريق الصمت والوقوف علي الحياد فماذا نتوقع من المواطنين البسطاء؟ إن دور الدولة هو أن تضرب علي أيدي البلطجية وأن تجعلهم يدخلون الجحور التي هي مكانهم الطبيعي, فتعطي بذلك المثل علي أن القانون هو الوسيلة الوحيدة للحصول علي الحقوق. طالما أننا نشجع البلطجة وننحني أمام البلطجي فعلينا ألا نتوقع إلا مزيدا من البلطجة وخرق القانون.