أثلج صدور المثقفين المصريين, وأشاع في نفوسهم الشعور بالطمأنينة والثقة في المستقبل القرار الذي انتهت إليه النيابة العامة, ووافق عليه المستشار عبدالمجيد محمود النائب العام بحفظ التحقيقات في البلاغ المقدم ضد المسئولين عن النشر في الهيئة العامة لقصور الثقافة, بسبب إعادتهم طبع كتاب ألف ليلة وليلة, لأنه يحوي عبارات اتهمها مقدمو البلاغ, وهم بعض المحامين, بازدراء الدين الإسلامي, وخدش الحياء العام, والدعوة إلي الفجور والفسق, وإشاعة الفاحشة. وقد وجدت النيابة العامة أن هذه الاتهامات لا تقوم علي أساس, وأن ألف ليلة وليلة تراث أدبي بعيد كل البعد عن انتهاك حرمة الأخلاق وإثارة الشهوات, وأنه تعبير عن أساليب القدماء وطرقهم في التأليف والكتابة, فهو موضوع للبحث المنتج والدرس الخصب لكونه أثرا من آثار الأدب الشعبي, ومكونا أصيلا من مكونات الثقافة العامة, ولأنه كان مصدرا للعديد من الأعمال الفنية الرائعة, ومن هنا انتهت النيابة العامة إلي حفظ التحقيق في القضية. هذا القرار الذي أسعد المثقفين المصريين عامة أسعدني أنا بشكل خاص, لأن ما جاء فيه يتفق اتفاقا تاما مع ما جاء في مقالاتي الأربع التي كتبتها حول الكتاب, وحول التهم التي رمي بها, فإذا كان حقا أن النيابة العامة استأنست في القرار الذي انتهت إليه بما كتبته في هذه القضية, فقد سنت بهذا سنة حسنة, ووضعت قاعدة تضمن العدل في الحكم بما يجوز في الأعمال الأدبية والفنية وما لا يجوز. ومن الحقائق المعروفة المتداولة أن الكلمات حمالة أوجه, لأن الكلمة في موضع أو سياق يختلف معناها في موضع أو سياق آخر, وكذلك الصور والعلامات والحركات والإشارات التي تتعدد معانيها بتعدد الأوضاع والسياقات التي ترد فيها. ولاشك في أن نظرتنا لراقصة الباليه تختلف عن نظرتنا لراقصة الكباريه, والبقرة عند شعب يقدس البقر غير البقرة عند شعب يأكلها! ومما يثلج الصدر ويبعث علي الرضا أن النيابة العامة لم تحتكم لظاهر العبارات التي اتهمها أصحاب البلاغ, وإنما احتكمت لما لهذا الأثر الأدبي الفريد من طبيعة خاصة لا نستطيع فهمه فهما صحيحا إلا بالرجوع إليها والبدء منها, فهو أدب شعبي لم يكتبه مؤلف فرد معروف, وإنما أبدعته العبقرية الشعبية في مصر وغيرها من بلاد العالم الإسلامي التي أسهمت في تأليفه, ومنها العراق, وإيران, والهند, فلا يجوز أن نوجه للكتاب التهم الشنيعة التي وجهها له أصحاب البلاغ, لأنها ستكون عندئذ موجهة بطريق غير مباشر لكل الأمم التي شاركت في تأليفه, وحاشا للمصريين والعراقيين والإيرانيين والهنود أن يسخروا عبقريتهم طوال ألف عام لازدراء الإسلام, والدعوة للفجور والفسق, وإشاعة الفاحشة, حتي يأتي في آخر الزمان تسعة دون كيشوتات يزعمون أنهم وحدهم دون خلق الله الموكلون باكتشاف الجريمة, وحماية العقيدة, والجهاد في سبيل الفضيلة والحياء العام. لا! وإنما يريد هؤلاء أن يجعلوا الدين تجارة, والأخلاق مطية يركبونها لفرض وصايتهم علي المصريين الذين ينظر لهم هؤلاء الأدعياء علي أنهم شعب من الأطفال الجانحين, فهم في حاجة لمن يراقبهم ويؤدبهم ويعلمهم كيف يفكرون وكيف يتحدثون! فإذا كانت النيابة العامة قد برأت ألف ليلة وليلة من تهمة الفحش التي رماها به هؤلاء, فقد برأت النيابة العامة المصريين جميعا من هذه التهمة, وردت كيد الذين رمونا بها إلي نحورهم, وفضحت أهدافهم الحقيقية, وهي فضيحة ستلاحقهم في المستقبل باعتبارهم أصحاب سوابق في إساءة الفهم واتهام الناس بالباطل, وستفرض عليهم بالتالي أن يفكروا طويلا قبل أن يطاردوا شاعرا, أو يطلبوا مصادرة كتاب, أو يعينوا أنفسهم أوصياء علي الناس. نعم, فالقرار الذي اتخذته النيابة العامة بحفظ التحقيقات في هذه القضية كلمة حق مسموعة في الدفاع عن حرية التفكير والتعبير والإبداع التي لا يصح بأي حال من الأحوال المساس بها مادامت مكفولة للجميع الذين يحق لكل منهم أن يؤيد ما يقبله, ويعارض ما لا يقبله من الآراء, وأن يصحح ما يراه محتاجا للتصحيح بمناقشته والرد عليه, لكن ليس من حق أحد أن يمنع أو يراقب أو يصادر بحجة الدفاع عن قيمة ينصب نفسه حارسا لها مدافعا عنها. نحن إذن لا نطالب بامتياز خاص للمثقفين, وإنما ندافع عن حق أصيل من حقوق المصريين جميعا, وعن قيمة رفيعة لا يكون الإنسان إنسانا إلا إذا تحلي بها ودافع عن حقه وحق الآخرين فيها. ولقد أثلج صدور المثقفين المصريين ورفع من معنوياتهم أن يشهد القانون للحق, وأن تدافع العدالة عن الإبداع الذي كسب قبل أيام قليلة معركة أخري خاضها طوال العقود الثلاثة الأخيرة مع أصحاب الفقه الصحراوي الذين حاربوا فن النحت, وأرسلوا لنقابة الفنانين التشكيليين يحذرون النحاتين المصريين من صنع تماثيل الميدان. لقد انتصر الأزهر أخيرا, والفضل للدكتور أحمد الطيب, لفن النحت الذي ظل فقهاء الصحراء يحاربونه ويحرمون علي المصريين مواصلة إبداعهم فيه, ظانين أن التمثال الذي ينصب ليس إلا صنما يعبد من دون الله! لقد ربحت الثقافة المصرية في هذه الأيام معركتين كبيرتين: معركة ألف ليلة وليلة, ومعركة النحت, لكنها لم تربح الحرب بعد, ولن تربحها إلا حين تنجح في إبطال العمل بالفتاوي والقوانين التي صدرت لمغازلة بعض العواطف, واستمالة بعض القوي المعادية للثقافة والديمقراطية, ومنحها هامشا في السلطة تتلهي به وتنصرف عن التطلع لاحتلال المركز. ومن هذه الفتاوي والقوانين قانون الحسبة, والمادة الثانية التي أضيفت للدستور, والفتوي التي صدرت عن مجلس الدولة بأن الأزهر هو وحده صاحب الرأي الملزم لوزارة الثقافة في الترخيص, أو رفض الترخيص للمصنفات التي تتعرض من قريب أو من بعيد لما له علاقة بالأمور الإسلامية. لقد استخدمت هذه القوانين والفتاوي في مصادرة الرأي ومحاصرة الإبداع, وكما استغلها المتشددون المسلمون استغلها المتشددون المسيحيون الذين لم يعد يجمع بينهم إلا التشدد. فالتشدد يجمع الفريقين لكي يفرق بينهما, الفريق الأول يهتف: القرآن دستورنا, فيرد الفريق الآخر: لا دستور إلا الإنجيل! ومن الطبيعي أن يشجع هذا المناخ علي الخلط بين الوقوف الي جانب الشعب الفلسطيني وهو حق, وهجاء اليهود قاطبة وعدم التمييز بين دعاة الحرب فيهم ودعاة السلام, وهو تعصب ذميم! إلي متي نواصل هذا العبث ؟ وهل تكون مراجعة الأزهر لموقفه من فن النحت وحفظ النيابة العامة للتحقيقات في قضية ألف ليلة وليلة بصيص النور الذي سنراجع به موقفنا ونعود إلي العقل ومنه إلي الوطن؟!