اليسار المصري في ازمة, هذا ليس جديدا, ازمته يعرفها القاصي والداني, وقد سبقت انهيار المعسكر الاشتراكي الشيوعي وتفكك الاتحاد السوفيتي في نهاية ثمانينيات القرن الماضي. ولذلك لم ينشر مركز الاهرام للنشر والترجمة والتوزيع كتاب( مأزق الحركة الشيوعية المصرية) للكاتب طلعت رميح ليعيد انتاج جانب من الجدل حول هذا المأزق فالكتاب يقدم رؤية لمأزق الحركة الشيوعية المصرية, والعربية بوجه عام, من موقع مزدوج, فالكاتب هو احد ابناء هذه الحركة في احدي مراحلها, ثم صار من خصومها عندما انتقل الي موقع اخر مغاير. فهو شيوعي سابق وهذا لقب يحمله كثيرون في العالم الآن راجعوا افكارهم بأمانة او انقلبوا عليها لاهواء استبدت بهم. ومع ذلك بقي كثيرون ايضا يحملون لقب يساري. فلم تعد كلمة شيوعي تستهوي إلا القليل من الذين قبضوا علي مبادئهم وبعضهم من كبار مثقفي العالم مثل الشاعر الفرنسي العظيم لويس اراجون, صاحب الكتاب المشهور الرجل الشيوعي الذي رفض قبل رحيله عام1982 مراجعة حرف مما كتبه حتي في مدح الممارسات الستالينية. وتعود اهمية كتاب( مأزق الحركة الشيوعية المصرية) الي الاسهام الذي يقدمه, سواء اصاب او اخطأ, في محاولة البحث عما حدث لهذه الحركة, فكيف انحسرت, ولماذا تراجع دورها الي حد انها صارت مهددة بأن تتلاشي, وكيف نفسر مأزقها علي اسس موضوعية ؟ مازال هذا السؤال المركب, وسيظل لزمن يصعب التكهن بمداه, مطروحا للبحث والتأمل, باعتباره جزءا من مسألة اعم واشمل تتعلق بأحوال التيارات السياسية والفكرية التي عرفتها مصر, كما غيرها, في العصر الحديث. فليست الحرية الشيوعية وحدها هي المأزومة, فمثلها, بدرجة او بأخري, باقي اليسار, ولاتختلف كثيرا حال الحركات والتيارات الليبرالية والقومية العربية, علي الاقل من حيث الجوهر واذا كانت الحركات الاسلامية تبدو اقوي, فهذا مانراه علي السطح ومما يمكن ان تختلف النظرة إليه اذا نفذنا الي بعض اعماقه, فقوة هذه الحركات ليست فيها وانما هي مستمدة من الفراغ السياسي الذي ملأه الدين( او بالآحري استغلال الدين) كما انتشر في هذا الفراغ الخطاب الذي يسمي دينيا بصوره المتنوعة وفتاويه التي تملأ الآفاق. فالحركات والتيارات السياسية والفكرية كلها اذن مأزومة, والحاجة الي محاولة فهم مأزق كل منها شديدة, حتي لايكون الاداء في المستقبل اعادة لما حدث في التاريخ. وربما يستغرب البعض ان يكون للحركة الشيوعية مستقبل, وهم الذين ظنوا انها صارت جزءا من الماضي ولم يبق منها إلا اطلال ولكن في هذا الظن خلطا بين حركات تروح وتجيء وتموت ايضا, وافكار لاتندثر مادام فيها نفع للبشر. ستظل الانسانية في حاجة الي الماركسية ليس فقط باعتبارها منهجا علميا في المقام الاول, ولكن ايضا لان في هذا المنهج دليلا ومرشدا الي مستقبل افضل اكثر عدلا او حتي اقل ظلما للفقراء والضعفاء, وقد ساهمت الماركسية فعلا, وليس فقط تحليلا في ذلك, فما كان للنظام الرأسمالي ان يتطور باتجاه فكرة الحد الادني الاجتماعي ومايقترن بها من رعاية وضمانات لمختلف الفئات في المجتمع إلا بتأثير الماركسية التي مثلت تهديدا له في اعماقه. فالفضل يعود الي الماركسية في تغيير وجه الحياة في كثير من المجتمعات في البلاد الرأسمالية الأكثر تقدما. والمفارقة انها ساعدت النظام الرأسمالي علي احراز نجاح لم تحقق مثله للنظام الاشتراكي الذي اقيم علي اساسها, واذا كان هناك من يرون ان هذا يعود الي عيب جوهري فيها, يعتقد اخرون ان هذا العيب هو في اولئك الذين طبقوها وفق ما فهموه منها. والارجح ان العيب يوجد هنا وهناك. فليس هناك فكر انساني يخلو من العيوب. ولكن مزايا الماركسية ومنافعها تظل اكبر من عيوبها واضرارها, اذا احسن من يؤمنون بها واستيعابها وفهم ظروف مجتمعهم في ان معا, واستمعوا جيدا الي الآراء المختلفة وحاولوا الاستفادة منها وخصوصا تلك التي يحاول اصحابها فهم ماحدث للحركة الشيوعية. وهذا ماسعي اليه المؤلف في هذا الكتاب, ولكن ليس لمساعدة اليسار علي الخروج من مأزقه بل لدفعه الي مراجعة جذرية تنسجم وتوجهاته الراهنة فالكتاب لايعرض خدمة مجانية لليسار, وانما يحاول تغيير دفة هذا التيار الذي يظل رغم فشله التاريخي هو الاكثر ايداعا علي المستوي الثقافي ولكن ليس علي الصعيد السياسي. واذا كان هذا هو مأرب طلعت رميح, ففي امكان من يناقش مأزقهم ان يتأملوا تحليله بشأن اختلالات حركتهم فيأخذوا منه ماقد يفيدهم ويدعوا جانبا ماينفع تياره الجديد الذي انتقل اليه مغادرا ارضية اليسار دون ان يفقد في ظني حنينه اليها. فهذه أرضية تهفو اليها قلوب من غادروها مهما تغيرت مواقعهم إلا من لاخير فيه لاي موقع يقف عليه, وهذه هيئة خلاصة تجربة كاتب السطور الذ ي جمعه ومؤلف الكتاب عمل مشترك علي ارضية يسارية من اجل العدالة والحق والحرية. كنا في جامعة القاهرة في منتصف سبعينيات القرن الماضي, حين جمعنا نادي الفكر الاشتراكي التقدمي الذي كان الصديق احمد بهاء الدين شعبان امينه العام وكاتب السطور امينه العام المساعد. واذا كان رميح انتقل الي موقع الخصومة مع الحركة الشيوعية, فهو لم يتورط في اي نوع من الاساءة الشخصية, مثله في ذلك مثل معظم من غادروا الحركة الشيوعية المصرية الي مواقع اخري. وهذه فضيلة تحسب لها, بخلاف حركات شيوعية في بلاد اخري تلاسن كوادرها وقادتها, وذهبوا الي أبعد مدي في الاساءة الي تاريخهم. ولذلك يبدو كتاب رميح, الذي صدر قبل ايام عن مركز الاهرام للنشر والترجمة, مختلفا تمام الاختلاف عن كتاب كنت شيوعيا الذي يضم مقالات للشاعر العراقي الراحل الكبير بدر شاكر السياب كان قد نشرها قبل عقود علي رحيله. كانت هذه مقالات ثأرية طعن فيها السياب رفاقه السابقين في ظهورهم, ونشرها في وقت محنة بالنسبة اليهم, وانهال فيها عليهم ذما وتجريحا. وكتاب مأزق الحركة الشيوعية المصرية هو نقيض كتاب كنت شيوعيا علي طول الخط انه كتاب في الموضوع.. وهو كتاب للمستقبل وليس عن الماضي. ولذلك نرجو ان يكون فاتحة اعمال تسعي الي تحليل وتفسير مأزق حركاتنا وتياراتنا السياسية و الفكرية كلها ماظهر منها ومابطن.