لم يطف بخيال أو يخطر ببال أي من أعضاء المجموعة اليوليوية التي طوت صفحة النظام الملكي, وتحولوا من ضباط وقادة صغار في السن والخبرة إلي حكام فجر يوم23 يوليو1952 أن الملك السابق أحمد فؤاد سيعود إلي زيارة بلده مصر. ويحل ضيفا مرحبا به, بل ويتجول فيها حرا سعيدا راضيا, ويلتقي بأهلها الذين استقبلوه بالحب, ويحاور النخبة في لقاءات كثيرة بصفة عامة, وكوكبة من كتاب ومفكري وصحفيي الأهرام بصفة خاصة عندما التقي بهم في دارهم يوم الأربعاء28 ابريل الماضي. ولو أن أحدهم تصور هذا لأصيبوا جميعا بالكوابيس. ومثل هذه الزيارة لم تكن لتتم بعيدا عن الدولة, وأهل الحكم, ويمكن القول إنهم كانوا أول من رحب بزيارة الرجل الحالية وزياراته هو وشقيقاته وزوجته السابقة من قبل. ومثل هذا الموقف النبيل والكبير يعكس ثقة أصحاب القرار في النفس والتاريخ والناس, كما يكشف مجددا أن مصر دولة راسخة جدا, فجذورها تمتد في أعماق الأرض ملايين متواصلة من السنوات شهدت, وسجلت, كما هائلا جدا من التجارب واكتسبت خبرات بقدر ما عاشت وعانت واضافت لا لمصر فقط بل للإنسانية ككل. وهذه الحكمة تبدت في قرار أهل الحكم, هي الابنة الشرعية للتاريخ المصري بكل عصوره وحلقاته ومراحله المختلفة والمتتابعة وهي الاقتناع العميق بأن لكل عصر ومرحلة ضرورات, ولكنها كلها صفحات من تاريخ مصر, وبما أن التسليم بالتغيير هو السمة الرئيسية لأهل مصر, لذا تمكنوا من القبول والتصالح مع التاريخ ككل, فالمصري يفخر بكل كيانه بالتاريخ الفرعوني ولا يعادي المرحلتين اليونانية, والرومانية, ويسعد بالمرحلة القبطية, ومن بعدها الاسلامية, ومع تعدد وتنوع وثراء العصور, وتوالي الحكام من كل نوع, فالمصري في النهاية يدرك أنه منطق التاريخ والجغرافيا والصراع. وفي كل الأحوال يعلي من شأن صناع التاريخ الكبار, وفي مقدمتهم مينا موحد القطرين, ومن بعد كبار الفراعنة صناع المجد والانتصارات, وفي العصر الحديث يضع محمد علي باشا في مكانته العالمية كبان لمصر الحديثة, ويذكرون بالخير خطوات إسماعيل باشا علي طريق النهوض ويعرفون لكل من الملكين فؤاد وفاروق قدرهما في مجال التطور الديمقراطي الذي شهد ثورة1919, وما أعقبها من إصدار دستور1923 الذي يعد أفضل الدساتير في تاريخ مصر المعاصر. هذا القبول وهذا التسامح والتصالح مع المراحل والعصور التاريخية كان حاضرا بقوة, ومصر تستقبل الملك السابق أحمد فؤاد, فلا أهل الحكم خافوا من عودة الملكية لإدراكهم أن صفحتها قد انطوت تماما, وأن أفراد أسرة محمد علي هم مصريون لهم كل الحقوق أسوة بكل المصريين, ومن فقد جنسيته بقرار تقرر إعادة جنسيته المصرية له كحق من حقوقه كمواطن مصري. ومن جانب آخر فإن احمد فؤاد لم يخطر بباله أبدا أن يصبح ملكا لمصر. وهذا الوضع المصري يختلف تماما مع ما تعيشه دول أخري في المنطقة, وعلي سبيل المثال فإن أوصال حكام إيران ترتعد كلما تذكروا ابن شاه إيران محمد رضا بهلوي الذي ثاروا عليه وأنهوا عصر الأسرة البهلوية, وكلما سافر ولي العهد هنا أو هناك تنتابهم المخاوف, وليس هناك من بينهم من يفكر في دعوة الأمير رضا لزيارة إيران. مثل هذه المعاني كانت واضحة أمامي, وأنا أشارك في استقبال الرجل, وعندما قدمني له الدكتور عبد المنعم سعيد رئيس مجلس الإدارة, وعندما طلب مني الحديث دارت كلمتي حول مدي رسوخ الدولة وأصالتها والاعتراف بدور محمد علي البارز, وعدد من ملوك الاسرة العلوية, كما أشرت إلي قدرة مصر وأهلها علي التصالح مع المراحل التاريخية والقبول بنتائجها, والتطلع إلي المستقبل الأفضل دائما. وكان أحمد فؤاد قد استمع بسعادة واضحة وتركيز لكلمات أنيس منصور والدكاترة عبد المنعم سعيد ووحيد عبد المجيد وطه عبد العليم, وأجاب علي مداعبات وتساؤلات صلاح منتصر وعصام عبد المنعم. وخلال هذا اللقاء وهذه الزيارة بدا للجميع في المحروسة أن الرجل ليس أكثر من مواطن يحب بلده. وهذا الحب تجسد في مواقف الرجل ففي أعقاب نكبة يونيو1967 تبرع بصفقة من عربات النقل العسكرية والسيارات المدرعة, وعاد ليتبرع لها من جديد بعد انتصار أكتوبر1973 ومرة أخري يتبرع لضحايا زلزال عام1992 وللاسهام في إعادة البناء. وقد سجل الرئيس السادات تبرع الملك السابق أحمد فؤاد في كتابه البحث عن الذات. وبمبادرة من السادات قرر إعادة الجنسية المصرية لأحمد فؤاد وشقيقاته, وبدأت أبواب مصر تستقبل أفراد هذه الأسرة. المزيد من مقالات عبده مباشر