بالأمس, بدأت مباريات كأس العالم في كرة القدم ولمدة شهر سوف ينشغل قطاع ضخم من المصريين بمتابعة هذه المباريات. والحقيقة أن الرياضة لم تكن أبدا مجرد ممارسة بدنية أو عضلية بل ارتبطت بالسلوك الاجتماعي السليم والقيم الأخلاقية. وتوضح النقوش المصرية القديمة في العصر الفرعوني أهمية الرياضة في حياة الإنسان والمجتمع كما أن تنظيم الدورات الاوليمبية لدي الإغريق ارتبط برفض الحرب وإعلاء قيمة السلام. وعنوان هذا المقال مأخوذ من اسم إحدي الحملتين اللتين تم الاتفاق عليهما بين الاتحاد الدولي لكرة القدم( ألفيفا) وحكومة جنوب أفريقيا والتي تهدف إلي إقامة عدد من مراكز التدريب علي اللعبة في الدول الإفريقية, أما الحملة الثانية فهي لدعم التعاون بين هيئات المجتمع المدني وقطاع الأعمال والحكومات بهدف محاربة الأمية في القارة السمراء. وللأسف, فإن ذلك يحدث في وقت يتعرض فيه الاتحاد المصري لكرة القدم للتحقيق القانوني بشأن بعض الأمور المالية والإدارية, وبمشكلة أكبر تتعلق بما حدث بين مصر والجزائر في نوفمبر2009 في المباراتين المؤهلتين للمشاركة في بطولة كأس العالم وهذا هو موضوع المقال. فما حدث بين جزء من جمهور المشجعين في مصر والجزائر لابد أن نتوقف أمامه طويلا بالتحليل السياسي والاجتماعي والنفسي, وأن نستخلص الدروس المناسبة. وهو موضوع أكبر من اتحاد كرة القدم وأكبر من نشاط الرياضة لأن الأزمة التي حدثت شاركت في صنعها أطراف عديدة مثل الإعلام الرياضي وبعض أعضاء مجلس الشعب وبعض المسئولين التنفيذيين الذين تبرعوا بتصريحات أو قاموا بأفعال عمقت الخلافات بين شعبي البلدين, وكان من شأن ذلك شعور الرأي العام المصري بوجود أزمة حادة وصلت أحيانا إلي تنمية الشعور بالكراهية تجاه الجزائر والجزائريين. وفي غمار هذه الأزمة تم إقناع أغلب المصريين بأنه لم يحدث اعتداء علي السيارة التي كانت تحمل اللاعبين الجزائريين وهي في طريقها من مطار القاهرة إلي مكان إقامتهم في أحد الفنادق, كما تم إقناع أغلب المصريين بأنه قد وقع عليهم جرم بالغ وعدوان فادح بعد مباراة أم درمان. وقد يكون هذا وذاك صحيحا ولكن المشكلة هي أن الطرف المصري لم يستطع إثبات حدوثه أمام اللجنة التأديبية بالفيفا التي بحثت شكوي الاتحاد الجزائري ضد الاتحاد المصري, وجاء نص القرار الذي صدر في18 مايو الماضي كما ورد علي موقع الفيفا علي الإنترنت بأن الاتحاد المصري لم ينجح في اتخاذ جميع تدابير الأمن الوقائية لضمان سلامة البعثة الجزائرية, بالإضافة إلي فشله في توفير الأمن والسلامة في ملعب القاهرة الدولي خلال مباراة يوم11/14. وأضاف التقرير أن الإتحاد المصري تحديدا لم يتخذ الإجراءات الضرورية لتفادي الاعتداء علي الحافلة التي أقلت أعضاء الوفد الجزائري وهم في طريقهم إلي الفندق يوم11/13 حيث تم تكسير زجاج نوافذ الحافلة وأصيب أربعة أعضاء من البعثة الجزائرية منهم ثلاثة لاعبين. وكذلك عدم ضمان الأمن والنظام داخل الملعب حيث تم تسجيل حضور جماهيري مفرط مما عرقل الحركة في المداخل وعلي أدراج الملعب وتم حجز حافلة الوفد الجزائري لأكثر من45 دقيقة بعد نهاية المباراة. أما بخصوص ما حدث في أم درمان يوم11/18 فإن اللجنة قضت بعدم توافر الشروط التي تسبق فتح التحقيق في الموضوع وبالتالي قررت إغلاق هذا الملف. هذا هو نص القرار الذي أصدرته اللجنة التأديبية ومنه يتضح أحد أمرين: إما أن ما قيل للمصريين لم يكن صحيحا أو دقيقا وفي هذه الحالة يتطلب الأمر السؤال: لماذا حدث ذلك ؟ وما هي مصلحة البعض في ترويج تلك المعلومات والتهويل منها؟ وفي هذه الحالة فإن ما حدث يكون مصيبة. وإما أن ما قيل قد حدث فعلا ولم تتمكن الجهات المسئولة من توثيقه وجمع الأدلة المادية والقانونية التي تثبت حدوثه, وفي هذه الحالة تصبح المصيبة أكبر وأعظم. وما حدث في هذه المناسبة يمكن أن نجد نماذج مماثلة له في مجالات أخري. نجد حالات التضخيم والتهويل من أحداث معينة وانشغال الرأي العام بها وخلق مشاعر قوية بشأنها, ثم سرعان ما يتضح أن هذا التضخيم لم يكن له ما يبرره في الواقع. وهذا التضخيم يحدث أحيانا في مجال الاختلاف والنقد وأحيانا أخري في مجال الإعجاب والإشادة. وفي الحالتين غالبا ما نفكر بعواطفنا وليس بعقولنا, ونتصرف وفقا لأهوائنا وليس حسب مصالحنا وهي سمات نتطلع إلي تجاوزها حتي نضع كل موضوع في نصابه وفي حجمه الحقيقي دون تهوين أو تهويل. إن المجتمعات الناجحة والشعوب الواثقة بنفسها لا تحتاج إلي تلك الممارسات والسلوكيات, وإن الناجحين والواثقين بأنفسهم تكون لديهم عادة شجاعة مراجعة مواقفهم, والسمو الأخلاقي الذي يمكنهم من نقد أنفسهم ومن تصحيح أفكارهم والاعتراف بأخطائهم إذا تطلب الأمر ذلك. لقد اتخذ بعضنا مواقف حادة بناء علي المعلومات التي كانت متاحة في ذلك الوقت فإذا اتضح اليوم أن هذه المعلومات لم تكن صحيحة أو أن الذين روجوا لها لم يتمكنوا من إثبات حدوثها علي النحو الذي وصفوه, فإن من حقنا أن نعيد النظر في المواقف الذي اتخذناها والأحكام التي وصلنا إليها. إن الشعوب العظيمة والناهضة تتقدم بفهم ذاتها وبنقد نفسها وتصحيح مواقفها وإن دور النخبة في كل مجال أن تقدم النموذج والقدوة بحيث نعظم كل ما هو إيجابي في حياتنا. فمراجعة الذات وتصحيح الأخطاء هما علامة قوة واقتدار وهما دليل نضج وشجاعة وسمو. أما البحث عن تبريرات واهية أو تفسيرات لا تقنع أحدا خارجنا فهو علامة هروب أخلاقي من تحمل المسئولية وعدم قدرة علي مواجهة الحقائق. المراجعة والاعتراف بالخطأ هما دليل قوة الشعوب العظيمة كالشعب المصري التي تدرك بحسها الفطري وإحساسها العميق بالتاريخ أن المراجعة وتصحيح المواقف هما شجاعة أخلاقية لا يمارسها إلا الأقوياء الذين يشعرون بالثقة في أنفسهم. وهذه هي المعاني الأخلاقية التي تحض عليها كل الأديان والشرائع وهي أولي أن نتبعها. نريد أن نكرس في عقولنا ونفوسنا ثقافة المكاشفة والصراحة والاعتراف بالخطأ إن وقع وأن تلك القيم ضرورة لابد منها لتحقيق التقدم والنهضة. وأنه لا يوجد مجتمع حقق تقدما مستديما علي أساس عدم الاعتراف بالأخطاء. فالمجتمعات التي تقدمت هي التي قامت بنقد الجوانب السلبية في ثقافاتها وممارساتها, وسعت لاكتساب قيم التقدم ومنها قيم المراجعة ونقد الذات... وليس عندي أدني شك في أن الشعب المصري بفطرته يؤمن بقيم الصدق والعدل والإنصاف وأنه في مباريات كأس العالم سوف يجد نفسه دون توجيه أو نصيحة من أحد في مكان المشجعين والمتحمسين للفريق العربي الوحيد وهو الفريق الجزائري.