لابد من الذهاب إليها. أنتظر حتي تصمت أجراس مزلقان قطار حلوان, القادم من باب اللوق, ثم أعبره قبل ان أنحرف يمينا حيث الأولاد دائما يلعبون الكرة في الساحة الترابية, أمام مركز تأهيل المعوقين. أتلكأ حتي أشاهد هدفا ثم أواصل سيري.لا أعراف اسما لهذا المكان الذي يأكله القطار دون ان يقف فيه سوي المساكن, وإن كنت أعرف بالتحديد المسافة التي تفصله عن بيتنا. لاشيء يتغير. لا في يدي, حيث بطاقتنا التموينية وشكائر الأرز والسكر الخاوية وماعون الزيت الذي أفرغت أمي ماتبقي منه في زجاجة صغيرة, ولا في يدي الأخري, حيث النقود, ولا في أذني حيث النصيحة الخالدة: راجع الحساب جيدا وتمم علي حاجتك. فجأة أجد نفسي فيما يشبه الريف. بهائم وطين وفقر يطل من البيوت القديمة. طعم الهواء الثقيل وطنين الذباب ورائحة الروث تدفعني دفعا الي شق ثعبان بين بيتين. أرشق نظراتي في النوافذ لاصطياد النسوة اللاتي ينقين الأرز أو يغسلن. تصعد الطريق ثم تنحدر فجأة فأستمتع باندفاعي وسرعتي. الي اليسار أقرأ أخيرا اللافتة المنشودة: بقالة يوسف أتنهد في ارتياح, ليس لأنني وصلت ولكن لأنني سأري أمل. *** لاشك أنهم أطلقوا هذا الاسم علي البقالة لان يوسف هو الكبير. أمه لم يكن يعيش لها أولاد, وعندما جاء هو كتبوا يوسف في شهادة الميلاد, لكن كان الاسم المتداول خيشة حتي يعيش. وأصبحت هي أم خيشة إلي الأبد. ثم جاء عبدالرحيم وكأنه من رحم آخر. أبيض لكن دميم أكرت الشعر, يضع نظارة قعر كوباية كأنها قناع الشيطان. لا يحلق لحيته أبدا ولا يطلقها, ولا يغير بدلته الصيفية المطرزة ببقع الزيت الذي يبيعه. كنت ادهش لرؤيته ولاطمئنانه المريب الي كل شيء وابتسامته الدائمة المجردة من اي معني. لكن لامفر من الاعتراف بانه كان اقرب الي من يوسف كان يعرفني ويرحب بي دون سبب مفهوم, ويحرص دائما علي ان أعرف انه الوحيد في عائلته الذي أكمل تعليمه حتي الدبلوم,وانه يقرأ الجرائد ويساعد أمه, بعكس يوسف الذي يرفض الوقوف في المحل رغم انه خرج من الصف الثالث الابتدائي. وكنت حقا لا أعرف ما الذي يفعله يوسف في حياته يلهو طوال النهار مع أصدقائه ويعاكس الفتيات او يدخن وحيدا, الشيء الوحيد المؤكد انه كان حانقا علي بقالة التموين التي ورثوها عن أبيهم, وعلي البيت المتهالك الذي يعلوها كان يلعن بصوت عال الزيت والصابون ومن يبيعهما ومن يشتريهما, وكنت أفهم ضيقه مني رغم حبي غير المبرر له. ربما كنت أحبه لان أمل تشبهه: السمرة والملاحة والغموض والشعر الأسود الناعم آخر العنقود القليلة في كل شيء: الحجم والسن والكلام. لا أذكر انني سمعت منها جملتين كاملتين متتاليتين, لكنني كنت منجذبا اليها, شغوفا بمعرفة ما وراءها, خاصة انها لم تكن تجلس في المحل وتظل معظم الوقت في البيت, باستثناء لحظات اتوق اليها تطل فيها من البلكونة الصغيرة لنشر الغسيل او لتأمل غامض مثلها. *** تبدأ الإجراءات في بطء. تملأ أم خيشة بمساعدة عبدالرحيم شكائر الأرز والسكر من اجولة المحل الكبيرة وفقا لحصتنا: خمسة افراد. ثم يذهب عبدالرحيم لملء ماعون الزيت من فناء قريب له باب خشبي عتيق مغلق بقفل وبه براميل الزيت ذات الصنابير. عندما كنت أنتظر عودته مرة سقطت علي ملتبسة من فوق. نظرت فلم أر أحدا. ربما لم تكن أمل ربما سقطت من احد أطفال أو افراد الأسرة. ربما لم تكن بلكونتهم أصلا. لكنني أقنعت نفسي بأنها هي, وأنها فعلت كذلك لتلفت نظري, أو لتعبر لي عن الإعجاب, وربما الحب. *** أم خيشة كومة من الجلد الأبيض المكرمش المتراكم. نموذج للأرملة التعيسة بملابسها السوداء الكالحة ومظهرها البائس. لم يرث عنها الشكل سوي عبدالرحيم, ويبدو أن يوسف وأمل يشبهان والدهما. رغم كل شيء, كانت تحاول ان تتحدث بود وتضحك, وعندما كانت تضحك, كانت عيناها الضيقتان تختفيان تماما. لم أكن أتفرس في ملامحها سوي في المراحل الأخيرة من الإجراءات وهي أمتع ما في الموضوع, حيث تنتهي بأول تعبير رسمي عن وجودي, وهو توقيعي باستلام تمويننا علي دفتر كبير لم أر مثيلا لحجمه, في الخانة المخصصة لنا, والتي كان عبدالرحيم يشير اليها بإصبعه الضخمة المكعبة, مع حرصي علي الفصل بينهما, حتي لا يكرف الشاي. وتحين لحظة حصولي علي مكافأتي عندما أشتري باكو أو اثنين من بسكويت لوكس السادة ذي الورق المفضض الأصفر, وفقا للفكة المتبقية من الحساب, ثم أدس النقود جيدا في جيبي, وأتمم علي حاجتي كلها. *** كنت أفكر في أمل في رحلة العودة. وكان تفكيري فيها يهون علي المسافة, وألم أصابعي تحت وزن الأكياس والشكائر, وتعبي مع تحول المنحدر الي مطلع, وتحول متعة الفرجة علي مباراة الكرة الترابية الي خوف من اصطدام الكرة بما أحمل. فكرت طويلا في الملبسة, التي احتفظت بها ورفضت ان آكلها, وتعمدت الا أفكر في اي احتمال آخر غير انها هي التي اسقطتها علي. *** عدت كثيرا الي بقالة يوسف بعد ذلك, وحدي او مع امي في سيارتنا ال128 الصفراء بعد إنشاء الكوبري اعلي شريط القطار, الذي اصبح المترو, وفي كل مرة كان هناك الجديد. تزوج يوسف ولم تعجبني زوجته هالة, التي بدت لي لعوبا وجريئة ثم سافر يوسف الي الخليج, وقيل: لكي يلبي طلباتها التي لاتنتهي. وبسطت هالة سيطرتها علي المكان. كانت ترتدي التريننج ولاتكف عن الحركة, وتسيء معاملة أم خيشة وأمل وعبدالرحيم نفسه. تمت خطوبة أمل واندهشت لعدم اهتمامي علي الاطلاق بالخبر, ولابمعرفة: من.. وكيف ؟ لكني انزعجت بعد شهور عندما عرفت ان مرضا في قلبها يعيق اتمام زواجها كانت أم خيشة تتصل بأمي وتبكي, وفهمت انه لايوجد امل.. ماتت أمل. حزنت طبعا عليها, لكن غالبني شعور أقوي من الحزن بأنني كبرت. لم أذهب بعد ذلك الي بقالة يوسف وعندما كنت امر عليها, أو ألمحها من شباك السيارة, لم أكن أري سوي عبدالرحيم, واقفا ينظر ببلاهة من خلف نظارته السميكة الي لاشيء.