يوم الأربعاء الماضي كان عيد ميلاد عبدالرحمن ابن خلدون المولود عام1332, وهو رجل لمعت أفكاره منذ اكتشافها في منتصف القرن التاسع عشر لتغمر الدنيا بفهم ما يصعب تفسيره. تذكرت أنا كاتب هذه السطور عيد ميلاد الرجل بينما كنت أقرأ عن المناخ النفسي الذي يدفع بجرح إصبع أي امرأة غير سعيدة في الزواج لاستغراق وقت في الشفاء أكثر بكثير من جرح إصبع أي امرأة تعيش درجة من الاكتمال العاطفي مع زوج يتحمل معها مسئولية رعاية أسرة وسط أي ظروف مهما كانت صعبة كما جاء في الكتاب الذي كنت غارقا في قراءته وهو المرشد الكامل في الصحة النفسية للمرأة والذي قام بكتابة أبحاثه خمسون عالما يهتمون بصحة المرأة وأشرف صدره ثلاثة من كبار علماء النفس وعلوم أمراض النساء والولادة هم لورين سلاتر, وجيسكا دانيال, وإيمي دانيال. وكان الخمسون عالما الذين كتبوا أبحاث هذا الكتاب يبحثون عن نهر عشق الحياة المتدفق بطاقة الحب وحدها في جسد وروح المرأة, فهي لا تثق في معني أنوثتها كما يقرر واحد من الباحثين إلا من خلال كائن من الجنس الآخر ترعاه ويرعاها. أما في حالات عشق المرأة للتفوق المهني وحده, فهذا التفوق يعوضها عن حالة الاكتمال العاطفي, ويكون هذا الاكتمال الجديد من خلال عطاء المرأة للمهنة التي تفوقت فيها. ويقرر الباحثون عن النهر السري للتكامل الأنثوي أن من أشق الأمور علي المرأة السير المتوازن في النجاح المهني والنجاح الأسري مالم يكن الزوج متعاونا, فهذا التعاون يعمق درجة الثقة في الزواج عند المرأة. أيقنت بعد قراءة عدة أبحاث من الكتاب أن هناك من سيأتي بعد سنوات ليقلب تلك الأبحاث علي رأسها وينبش في قاع مفرداتها ليصل إلي حقائق مؤقتة أخري. فالعلم لا يتوقف عن البحث عن أسئلة جديدة تأخذ من الإجابات التي وصل اليها السابقون فرصة لمزيد من الفهم للحياة الإنسانية. وعند وصولي إلي تلك القناعة قررت البحث عمن علمني تلك المرونة في النظر إلي الحقائق, فأطل في الخيال مشهد الأستاذ الدكتور سيد بدوي أستاذ علم الاجتماع الكبير بآداب الاسكندرية, عندما كان يلقي علينا محاضرات في مقدمة علم الاجتماع ليعلمنا أسلوب ابن خلدون العالم العربي الذي لم ينتبه العالم إلي روعة ابتعاد عن تيبس أو جمود التفكير إلا في منتصف القرن التاسع عشر عندما اكتشف العلماء مقدمته التي علي أساسها تطورت علوم كثيرة وتأسست بها رؤية لمجري النهر السري الذي ينبض بالفيضان تحت مجري الظاهر من الأمور, وهي المقدمة التي ظهرت إلي الوجود في القرن الرابع عشر وبدت بالنسبة لكاتبها كطاقة من نور أخاذ ملهم, حتي أيقن أنها اتخذته هو كوسيلة للخروج إلي الكون, مثلها في ذلك مثل كل الأعمال العبقرية التي أثرت في التاريخ البشري. وعلي الرغم من أن ابن خلدون قد اعتلي أرقي المناصب في الدويلات المتناحرة سواء في الأندلس أو في المغرب العربي, واستمرت المناصب تتقاذفه منذ أن بلغ العشرين من العمر, الا أنه ما أن وصل إلي منتصف الاربعينيات حتي قرر الانقطاع إلي البحث والتأليف, بعد أن طاف في طفولته وشبابه بآفاق المتاح من فلسفات وعلوم الدين والمذاهب, وإن كان قد انبهر بأرسطو وأفلاطون ثم بقواعد الفقه والحديث. ولعله أول من آمن بفصل الدين عن الدولة, حين قرر أن علوم الحياة تقتضي الاختبار والتجريب, بل هو من أخضع العديد من علوم الدين لمنطق سيادة مصلحة البشر. ودرس أسباب قيام وسقوط الممالك والحضارات, وقام بتصنيف المهن المختلفة التي تحتاج اليها المجتمعات لتتقارب وترتقي. وظل الرجل مواظبا علي الحذف والإضافة والتجويد لمقدمته التي أرسي من بعدها بقية تاريخه للعالم. وعندما أراد لنفسه الاستقرار جاء إلي مصر ليستقبله حكامها من المماليك ليحسنوا وفادته, بل هناك من ولاه أعلي مراكز القضاء. ولأنه أراد للقضاء أن يكون عادلا لاشفاعة فيه لقريب أو نسيب تآمر عليه بعض من أهل النفوذ, واستطاعوا إقصاءه أكثر من مرة من مناصب القضاء, ولكن لم يستطع أحد إقصاءه من مكانة المعلم. وإذا كان المؤرخون له قد أخذوا عليه تقلبه في خدمة أهل السلطان, فهو لا ينسي علي الإطلاق مهمته كمفكر التي فرضت عليه التجرد وعدم التعرض لسلطان بسوء, فكل ما كان يرغب فيه هو رؤية مجري التاريخ ومحاولة التعرف علي أسباب الرفعة وأسباب الانهيار وما هي العوامل المؤثرة في السلوك البشري, ولعله أول من أولي اهتماما كبيرا بأثر البيئة علي السلوك. ولعله أيضا أول من أرسي أهمية قياس الواقعة التاريخية كما حدثت لا كما توهمها الكذبة ممن تناولوا كتابة التاريخ بتعظيم بعض من شاءوا والتهوين بخصومهم, فالتهويل والتهوين هما من أشد الأمراض فتكا بحقائق الواقع التي يمكن أن تؤهل للمؤرخ وصانع السياسة رؤية المستقبل. ولعل أهم ما تميز به ابن خلدون هو جسارة القلب وعدم الاستسلام للعاطفة, سواء وهو يتولي مراكز القضاء أو إبان شبابه عندما تقلب بين مناصب الدولة في المغرب والأندلس. ويقرر العديد من دارسي حياته واعماله من كبار فلاسفة التاريخ مثل أرنولد تونبي بأنه كان سباقا بفكره عن ميكيافلي مؤلف كتاب الأمير, فقد اقتصر ميكيافلي علي صياغة نصائح لأي أمير حتي يستمر في قيادة بلده, ولكن ابن خلدون هو من أسس لأهل الحكمة والحكم كيفية الرؤية لعمق المجتمع ونوعية الحرف والطبقات فيه. ونتيجة لتذكري أنا كاتب هذه السطور لقيمة ابن خلدون كما شرحها لنا في صدر الشباب الراحل الكريم د. سيد بدوي أستاذ علم الاجتماع بآداب الاسكندرية, ذهبت إلي مكتبتي لأجد كتابا علي أعلي درجات الاكتمال عن هذا الفيلسوف صاغه محمد عبدالله عنان وهو المؤرخ الفعلي لتاريخ الأندلس وهو المترجم لبحث من أبحاث معلم الأجيال عميد الأدب العربي طه حسين, وهو بحث عن ابن خلدون وجاء كتاب محمد عبدالله عنان عن ابن خلدون بتفاصيل حياته وتراثه الفكري كمنصة يمكن أن تنطلق منها الأفكار بعيدا عن آفة هذا العصر وكل العصور السابقة, وأعني بها آفة الجمود. وشكرت بيني وبين نفسي الأستاذ الدكتور محمد صابر عرب رئيس دار الكتب الذي عني بإصدار مؤلف عبدالله عنان عند ابن خلدون, فضلا عن إصدار المقدمة نفسها بطبعة نفدت فور صدورها. وبعد أن انتهيت من قراءة كتاب محمد عبدالله عنان الذي كتبه في عام1953, ونقحه عام1963, بعد ذلك عدت إلي الأبحاث المرشد الكامل في الصحة النفسية للمرأة الذي يجمع خبرات وأبحاث خمسين عالما يهتمون بصحة المرأة وأشرف صدره ثلاثة من كبار علماء النفس وعلوم أمراض النساء والولادة, وقلت لنفسي الذين كتبوا أبحاث هذا الكتاب يبحثون عن نهر عشق الحياة المتدفق بطاقة الحب وحدها في جسد وروح المرأة, وما أجدرنا بان نجد خمسين عالم اجتماع يدرسون الرجل أيضا, ويدرسون وقائع الحياة المتقلبة بشكل متسارع في ز مان لاهث, لأن البشرية بأجمعها تبحث عما يقرره علماء النفس عن حالة من الاكتمال العاطفي, وذلك كي نقي أنفسنا من برودة الإحساس بالوحدة علي الرغم من حالة الصخب التي يعيشها كوكب الأرض.