حياتي وحياتك.. مزيج من لحظات مبهجة ولحظات دامعة, ترقد اللحظات في حضن الذاكرة, مرة تسعدنا ومرة تؤلمنا, مرة نستدعيها, ومرة أخري نسدل عليها ستائر النسيان. أحيانا نتوق الي الاقامة الطويلة في لحظاتنا المبهجة, وأحيانا نفر هربا من لحظاتنا التعسة.. اللحظة, ومضة, اللحظة وحدة قياس لزمن مكثف قصير, لكن عمقه أكبر من وقته القصير, لم أصدق يوسف السباعي حين قال إن( العمر لحظة), ظننتها عبارة أدبية موجزة, ثم اكتشفت بتجاربي الحياتية أن العمر لحظة, وربما لحظات هي في نهاية الأمر زاد الطريق والمؤنس من وحشته, وحين صادفني المثل الانجليزي القائل( عمر الأشياء الجميلة.. قصير), اشتقت للاقامة الطويلة في كل لحظة جميلة قبل أن ينقضي عمرها, لكني ضيعت المتعة بالتأمل فحجب عني جمال اللحظة, صرت أكره التأمل, هذه الرياضة العقلية, وأحاول أن أعيش اللحظة, ويوم خرج د. زويل بالفيمتوثانية, شعرت أن الثواني الجميلة تقولبت في معمل العالم, وعلي قدر الاهتمام بنتائج هذا الكشف, علي قدر الحزن حين تجردت اللحظة من لباسها المزركش وعذوبتها العذرية, من لحظات الفرح التي تربي عليها هذا الجيل صرخة النشوة الكروية حين تهتز الشباك إثر تمريرة ثم هدف يمنح جماهير الكرة لحظة نادرة من السعادة, هنا تبدو الاقامة الطويلة في هذه اللحظة القصيرة بإعادة اللقطة مرات لاشباع الجماهير العطشي للفرح, في جيلي, كانت اللحظة النادرة تأميم القناة في لحظة غير مسبوقة, وميلاد سد عال في أسوان, وكانت أتعس اللحظات يوم عشنا هزيمة الساعات الست, أو انكسار الوحدة مع الإقليم الشمالي, عرف وجدان المصريين الألم, ومنحهم الألم صلابة بعد أن ذاقوا ملوحة دمعة علي خد الوطن, وكنت أتساءل بقلق هل الخبرات الحياتية تعد بلحظات بهجة تصد عني الصدمات, أم هي تنزل بي الي آبار الأشياء, فتنفضح ويتعري وجهها القبيح؟ لكن خبراتي تجعل بصيرتي حادة, وربما أخطأت في فهم اللحظة أو كنهها, فأين اليقين؟ سيظل( اليقين) أكبر علامة استفهام في الحياة, ان الزمن مصور محترف يلتقط أدق التفاصيل والمأساة حين تتعطل الحواس, يقف دوران الأرض وتقف الدورة الدموية الدماغية, وتقف دقات القلوب وعقارب الساعات, حين تعود الحواس لعافيتها, تنبض القلوب وتعربد الدهشة في الصدور وما تمنيت أن تهاجر من صدري. إن اجتراء لحظة ما من دفتر القلب, ترقد في سلام فوق الشرايين أو تختبيء بين الأوردة, يضاعف في ضخ الدم, بعض لحظات الإنسان ومواقفه في الحياة كأنها وشم مرسوم منقوش فوق روحه يسافر به الدنيا وهو في محطة ثابتة, إن إشارات صغيرة قد تخاطب جهازنا العصبي وربما لها رصيد في فنادق الذاكرة لم يمح بعد ولا أصابه الصدأ, فيعبث بالصورة علي شاشة الذاكرة نراها بتفاصيلها وألوانها الباهتة, يعود المشهد من مقطع أغنية لأم كلثوم تنبعث من مركب نيلي بشراع أو صوت مغني إسباني مبحوح فوق باخرة تتهادي علي مياه بحيرة جنيف, أو رائحة تماثيل البر الغربي في الأقصر, في الواقع نحن نجتر اللحظة, والاجترار عملية سفر في عمق زمني والاستغراق فيها. ماذا يحدث عند الاقامة الطويلة في لحظة قصيرة من لحظات العمر؟ يتمناها العشاق, ويكتفون بحالة الزلزال التي تحدثها اللحظة, وان كانوا يتعذبون من الاحساس بأن العشاق حين يتكلمون في مقدمات حب فهذا يؤذن بالنهاية. ما أبغص( النهايات), من هنا نحلم أن تطول اللحظة ولا تتلاشي أو تغيب وراء الأفق, في بعض الأحيان تتمهل اللحظة علي مرآة الذات, كاشفة عن نمنمات وظلال تمنح بهجة. استدع أي لحظة مؤلمة وقرر الاقامة الطويلة فيها, ستكتشف أن الندم حاضر, وتجد نفسك تعيد صياغة الأشياء التي كانت, نعم, نحن ندرك عمق اللحظات بعد فوات الأوان, وانظر حولك لعذابات كانت نتيجة شهوة انتقام, أو شهوة مال أو شهوة سلطة أو شهوة نيل امرأة, ولأننا بشر وليس ملائكة, نعيش تحت سلطان شهوة ما, ولأننا لسنا فلاسفة نحيا اللحظة بطولها وعرضها.. ثم نستخلص جوهرها فيما بعد. في فترة من الفترات سيطرت علي السينما الفرنسية, وربما الأمريكية أيضا, فكرة( الفلاش باك) أي استرجاع واجترار لحظات الحياة, وقد استمتع العالم بهذه النوعية من الأفلام لأنها كانت( الاقامة الطويلة في اللحظات القصيرة), فالإنسان يحب وهو يستعرض سيناريو حياته رغبته المخبوءة في حذف بعض المشاهد, ان سربا من طيور البهجة والحزن تحلق في سماء أي إنسان, تلاحقه أينما ذهب كظله ولا تفارقه, لأنها مقيمة في صدره وعقله الباطن, تحط علي أغصان عمره وتعشش في ثناياه وما الزمن الجميل إلا عقد من اللحظات الرائعة تحيط برقبة كل منا, وجاء زمن سرقوا منا العقد وأحاطوا الرقاب بورود صناعية ميتة, لكن( الذكري) لحظة ممتدة في الزمن يحفظها( صندوق أسود) في رأسي ورأسك, يحافظ علي اللحظات, حلوها ومرها, ويصبح النسيان نعمة أحيانا وربما نقمة! ونري الحياة من خلال جراحنا لأن ثقافة الحزن تحكمنا في الشرق, بينما يطرد العالم الأول الجراح ويقفز فوق الألم, هم يضحكون ويتسامرون, ونحن نتلذذ بنزيف أحزاننا ونمضغه, ونسكن مدن الحزن والدموع!