أستأذن قاريء الأهرام في العزف علي أرغولي, ربما أتطهر بنار الشوق.. لها, فلم تكن بنت العمدة جملة اعتراضية في حياتي ولم تكن مجرد حروف استلقت علي شاطيء حياتي, كانت هي حياتي . مهما اكتنفها من خلافات ومازالت دبلتها التي تحمل اسمها في أصبعي شاهدا علي عزوفي عن ركوب قطار النسيان, هي حاضرة في كل المحطات. وحدي, أبصرها في زماننا الضرير علي حد قول صلاح عبدالصبور, وحدي أجتر أيامي معها, الحلوة والمرة, وحدي أحدق في لحظات تقاسمناها معا وصارت وشما منقوشا فوق الروح, وحدي اختبيء في خندق الذكريات أفتش في صورها عن أماكن جمعتنا معا, وحدي أخاطبها وأود أن أقدم لها اعتذارا عن خطأ في حقها أو ندمت علي صرخة غضب في وجهها أو أبرر لها تصرفا نال من كبريائها, لكنها محاولة عبثية, أن أخاطب تابوتا في أمور حياتية, ولكن يكفي الرغبة المبللة بالدمع في مراجعة الذات. لماذا لم تعش رفيقة دربي سنوات أخري من الأمل والفرح؟ لماذا انقض عليها المرض وظلت بشجاعة نادرة حتي الرمق الأخير تصارعه ولكنه صرعها, كانت في أمريكا تحمل ميكروفونها بعد حقنة الكيموثربي لتسجل( صحبة إذاعية) وكأنها تريد أن تتحدي المرض وتتحرش بالحياة. يا ألف خسارة علي أيام ضيعناها في خلاف ونقار وغيره وخصام, يا ألف خسارة, صدقنا غدر الزمن الذي يلون الأيام ألوانا براقة وأخفي عنا سواد أيام أخري, ذقت فيها طعم الفراق, ظللت أبحث طويلا وأفتش في بنك يمنحني قرضا لسنوات أخري من عمرها وعدت بخيبة أمل وشعرت اني أجدف. بعد أن ودعناها يوم الرحيل الحادي عشر من مارس2001, عاد الناس جميعا الي بيوتهم وخطفتهم اهتماماتهم وطوتهم الأيام طيا, أما أنا, فالحنين باق برغم السنوات التسع.. نحيبا روحيا. يوم كتبت آمال العمدة علي شاشة حياتها كلمة الوداع, كرهت لحظات الوداع, انها موت تسدل فيه ستائر النسيان, انها جنازة مهيبة تعبر الشارع وسرادق يصافح فيه الناس بعضهم ويغمغمون بكلمات العزاء, ربما يمنح العزاء بعض السلوي.. ولكن الموت ينتزع أحباءنا من بين ضلوعنا ويمضي ويشق في الصدور أنهار الدموع. أعود لها, حين أشعر بالاغتراب, حين أبحث عن ملاح يبحر بسفينتي في أمان, أعود لها حين احتاج الي الكلمة البلسم في زمان شحت علي شفاه النساء الكلمة البلسم. كان الصلح بعد الخلاف علي جلسات مصارحة مفعمة بالمودة, كان التجاوز ضئيلا لأنه يشيد جبلا من التراكمات, كنا في بداية المشوار نغضب بسرعة ونثور في ثوان ثم أفقنا يوم جاءت الي الدنيا ثمرة العمر حنان, صرنا ثلاثة, وتربية بنت تحتاج الي أضلاع المثلث: المدرسة والبيت ونوعية الأهل. كثيرا ما كانت حنان ابنتنا هي كلمة السر عقب أي خلاف, كانت تجمعنا آمال وأنا فوق جسر العتاب, فنصفو بعد أن تلبدت سماء علاقتنا. ها هي الفراشات تطير أمام قبرها, ويقولون في الحس الشعبي انها( أرواح), هل تحمل الفراشات الملونة علي جناحها.. عتابا؟ ليتها تفعل, لأني أتساءل.. هل يصلك صهيل أحزاني؟ يمتزج في هذه اللحظة حبر القلم بالدموع وأحجب الدمعة فلا تتسرب من بين حروف كلماتي لتسقط أمام قارئي. قبرها, ليس نصبا تذكاريا نذهب إليه في يوم ذكراها حاملين الورود أنا وابنتي, ولكنه داخلي يقيم في فندق الذاكرة ولا يبارحها. هل يستريح المتمرد فقط في قبره؟ لم أدفنها في ذاكرتي, برغم أنهم أخذوها يوم رحيلها في صندوق خشبي وأودعوها السكون الأبدي. لقد استراحت في صدفة من أصداف بحر الموت, استراحت فلا صراعات ولا منافسات ولا جفاء ولا تبدل في المشاعر ولا مكاسب مزيفة ولا تكالب علي مغانم, ولا لهاث يقطع النفس, ولا طموحات تشوي البدن ولا شراسة في المعاملات, استراحت بعد تعب حتي زارها الموت قرب الفجر والناس نيام, وقدم لها التعازي في الحياة. أستحضر روحها وربما صارحتها بمشاعر هي خليط من حب مكتوم ومرارة ذاعقة وشيء من الندم, ولكن( تفيد بإيه ياندم؟) كما تشدو أم كلثوم. هي ماتت, وبعض الأحياء يموتون في اليوم ألف مرة, وبعض الموتي أحياء في قلوبنا, هي ماتت والعالم لم يتوقف, فعجلة الزمن لا تعبأ بمخلوق سقط أو حيوان نفق أو زرع جف أو أرض تصحرت أو زلزال ردم مدنا, عجلة الزمن تدوس في طريقها أي شيء, ولا يتوقف الزمن. هو أي الزمن يتقن فن صياغة الذكري, وكتاب الزمن مجرد ذكريات هناك في كتاب الزمن لقطات ثابتة نحدق فيها لأنها بعض من دفاتر أيامنا, لماذا يعجز العقل عن استيعاب أن الموت هو الحقيقة الوحيدة في الحياة؟ لماذا الصراعات الشرسة علي سراب؟ هل نملأ الحياة صخبا لأننا نقاوم السكون.. السكون؟ هل للقبور جيوب؟ إن الذين عاشوا المجد وصفقت لهم الدنيا تضم القبور رفاتهم وأحيانا تتحول الي مزارات, حين تأتي الذكري تهز أغصان الشجرة وتصبح تفاصيل الذكريات بمثابة حجر أو أحجار نلقيها في بحيرة النسيان لتحرك مياهها, ثم, ثم نعود لطاحونة الحياة, تطحننا بتروسها وقد ندفع الثمن من الصحة أو من الهناء الشخصي ويصبح الحلم أن نحيا.. تعاسة أقل! المزيد من مقالات مفيد فوزى