تتعرض ضاحية مصر الجديدة لهجمة شرسة من أنصار السيارة الخاصة تهدد بأن تدمر الطابع المعماري والحضاري لأحد معالم القاهرة الحديثة. وتتم هذه الهجمة بدعوي التطوير والتحديث, ودون أي نقاش أو تفسير لأهالي الضاحية العريقة. وهم يراقبون في صمت تفكيك أواصر وانهيار أسلوب حياة متميز في ضواحي القاهرة. ولقد كان مشروع ضاحية مصر الجديدة, التي احتفلت بعيدها المئوي منذ أقل من العام, إحدي الصور الناجحة للتطوير الحضري في القاهرة. واعتمد المشروع علي توفير السكن الصحي المناسب للطبقات الجديدة من المصريين والاجانب الذين ضاقت بهم الحياة في أوائل القرن العشرين في وسط البلد واحياء القاهرة القديمة. واستوحت المدينة طرازا معماريا يجمع بين فنون الغرب والشرق, فهي تستوحي الطراز الاسلامي عن طريق إضافة القباب والمآذن العالية, بينما تسمح بطراز البحر المتوسط في الشرفات والبلكونات الواسعة, ومازجت الضاحية بين احتياجات السكني والتسوق ودور العبادة والترفيه. ولعل عبقرية مشروع مصر الجديدة كانت في انشاء مترو مصر الجديدة الذي ربط الضاحية الصحراوية بوسط البلد وتم هذا دون إعاقة لمواصلات القاهرة الاخري بخلق مسار معزول للمترو في معظم رحلته من القاهرة. واعتمد سكان مصر الجديدة علي هذه الوسيلة المتحضرة للنقل وكانت عنصرا أساسيا في نجاح هذه الضاحية. ويذكر سكان مصر الجديدة عربات المترو الفخمة التي وصلت من اليابان في أوائل الستينيات بأرائكها المريحة المغطاه بالجلد الأخضر( ومازالت بعض هذه العربات تعمل الي اليوم بعد خمسين عاما). وبالتالي لم يكن هناك حاجة للسيارة الخاصة. ولقد بدأ التدهور في مصر الجديدة بانهيار خدمات المترو التي تم الاستيلاء عليها من قبل هيئة النقل العام, وصودرت مهماته وقطع الغيار لحساب ترامواي القاهرة. وسرعان ماتهالكت العربات وقل مستوي الخدمة مما جعل الاعتماد عليه من قبيل المغامرة غير المحسوبة. والمحزن هو عدم استخدام البنية الأساسية من قضبان ومحطات وتوصيلات وخطوط كهربية, التي لو حاولنا أن نعيد بناءها اليوم لكلفت الدولة مليارات الجنيهات. ويحتاج تطوير المرفق الي مبلغ زهيد نسبيا يتمثل في اسطول جديد من العربات مع اعادة تأهيل بعض الخطوط وربطها بخطوط مترو الانفاق. والعنصر الثاني للهجوم علي طابع الضاحية الهادئة كان في هدم الفيلات الخاصة وتحويلها الي عمارات شاهقة. وبدأت هذه الهوجة في السبعينيات ثم توقفت قليلا في التسعينيات, ثم عادت بقوة في السنوات الخمس الاخيرة. وامتد التدمير ليشمل صرة مصر هجمة شرسة علي أحد معالم القاهرة الحضارية والمعمارية الجديدة وبالذات في منطقة الكوربة التي كانت قد حظت برعاية كريمة من سيدة مصر الاولي من خلال جمعية تنمية مصر الجديدة التي تبنت اعادة طلاء وتنظيم المنطقة بل وتحويل شارع بغداد الي شارع للمشاه كل يوم جمعة يتحول فيه الي منتزه مفتوح وسوق للتسوق والترويح, ويقام في ميدان الكوربة( الذي جاء اسمه من كلمة منحني باللغة الإيطالي رمزا علي انحراف خط المترو في الميدان) مهرجان فني سنوي يحظي بحضور كثيف. وشوهد خلال الأشهر الأخيرة مجموعة من مشروعات المباني العملاقة في المناطق المتاخمة وبالذات في شارع بيروت وامتداد شارع بغداد. أما العنصر الثالث في الهجوم علي الضاحية فكان في اختلال التوزيع بين الاحتياجات السكانية والخدمية. فمن ناحية سمح لعدد كبير من المطاعم والكافتريات ومحلات الساندوتش أن تفتح في مناطق مزدحمة أصلا مثل تقاطع المترو عند شارع الأهرام. ومن ناحية اخري عادت ورش صيانة السيارات بعد أن تم استبعادها الي منطقة الحرفيين, وأصبحت أجزاء من شارع دمشق, وشارع ابراهيم ورشا مفتوحة للصيانة والتجديد. ويتم كل هذا بمعرفة أو تغاضي شرطة المرافق أو أجهزة الحي التي لاتحرك ساكنا في إزالة أسباب الاختناقات المرورية في هذه الشوارع, وتكتفي فقط بحضور لشرطة المرور في الميادين مثل ميدان الجامع وروكسي والكوربة دون أن تزيل اصل الداء. أما آخر صور الهجوم علي الضاحية فتمثل في الهجوم علي الأرصفة لإتاحة المجال للمزيد من أماكن الانتظار للسيارات. وفي الأيام الاخيرة تم تقليص عرض الرصيف في شارع الثورة ابتداء من ميدان الكوربة من نحو4.5 متر الي مترين تقريبا, وهكذا سيتحول الميدان التاريخي الي جراج مفتوح مما يطمس معالمه الاثرية والمعمارية الفريدة. كذلك تمت إزالة جزيرة المشاة عند تقاطع الثورة مع شارع بيروت مما سيجعل عبور الشارع مغامرة غير محسوبة ويعزل منطقة الكوربة عن شارع كليوباترا المليء بدور العبادة والمدارس والمستشفيات, ويرغم الناس علي استخدام السيارة بدلا من المشي. ما الحل إذا!؟ لعل أول عناصر الحل هو وقف هذا الهجوم الشرس علي الفيلات القديمة وتحويلها الي أبراج عالية حتي في أصغر شوارع الضاحية, وثانيها هو عودة رونق وفاعلية المترو التي اقتطعت أوصاله واختصرت خدماته, وثالثها منع الاستخدام الجائر لمسطحات الشوارع التي تحولت الي جراجات مفتوحة, وكذلك البدء برنامج نشط لبناء الجراجات فوق وتحت الارض, مع فرض رسوم مقابل الانتظار في الشوراع الرئيسية بدلا من ترك المجال للمنادين وعساكر المرور, وأخيرا من الواجب فرض تنظيم قاس للمحلات العامة والمطاعم والمقاهي المفتوحة في منطقة نالت أكثر من حظها من هذه المرافق. هذه دعوة مفتوحة لإنقاذ ضاحية نموذجية تملك كل عناصر النجاح والتفوق.