الطفل مستقبل الأمة ورعايته واجبة, فهو حامل للثقافة وصانعها فيما بعد, وعلينا أن ننظر فيما يقدم إليه نظرة موضوعية وتربوية, وتخلصه من هوس الخيال الجانح والتغريب الذي يؤدي إلي التهويم والبعد عن الواقع. والأمم تتنوع حضارتها وتتعدد فلسفتها ويتراكم موروثها, والانفتاح علي هذه الثقافات وارد ومطلوب, وفي ظل الوعي بدرجة التأثير والإزاحة فإن ما ينقل إلي الطفل ينبغي أن يخضع للتحليل والدرس النقدي والتربوي, فما يغرس في الذاكرة لا ينسي بسهولة, وما يتلقاه من ثقافة خاصة بعمره السني يسهم في تشكيل وجدانه, وتحديد ملامح فكره فيما بعد. ..ولقد سعت الأمم بمفكريها وأدبائها وعلماء التربية فيها إلي تثقيف الأطفال علي مدي أعمارهم السنية بالمكون الحضاري والسلوكي في المجتمع الذي ينشأون فيه. فما يقدم لمرحلة الروضة, يختلف عما يقدم للمرحلة الابتدائية من حيث طرائق الصياغة اللغوية والتعبيرية والموضوعات التي تتدرج فكرة ولغة مع مراحل العمر والوعي معا. فالطفل في بواكيره يتلقي شفاهة وكتابة ما يثري الوجدان ويرسخ القيم, وينمي اللغة, ويشبع الرغبة, ويناوش الخيال... وهكذا في مراحل الطفولة الأخري... ... ولقد اكتسبت ثقافة الطفل أهمية من كونها وسيلة فعالة لصياغة الفرد, وكشفا لقدراته ومواهبه مما تطلب أن يكون الخطاب الموجه إليه باعثا علي الابتكار, وعاملا علي حفز الهمة, وتحويل الطاقة الكامنة إلي السواء النفسي والسلوكي, وإلي الإبداع والتفكير وإذكاء الخيال. .. وعبر التاريخ البشري تراكمت الثقافات, وتنوعت الحكايات والأساطير والقصص, وانتقل ذلك كله عبر موروث أدبي وتربوي إلي الأجيال التالية, وكل جيل يحرص علي تنشئة الصغار علي القيم التي أرسوها, وهي قيم الحق والخير والجمال.. ولعل الهدف هو السعي نحو تربية صالحة وواعية تجعل منهم مواطنين صالحين, وقادرين علي صنع الحياة والتاريخ. ولقد نتج عن ذلك الاهتمام ظهور توجهات تربوية وأدبية تواكب العملية التعليمية وتتجاوزها نحن طبيعة الطفولة في خصائصها النفسية, واحتياجاتها البشرية, في إطار من القيم والمثل العليا والنماذج الإنسانية والانطباعات السوية. ... ولم يخل الأدب العربي من أدب يتناول الطفل.. جاء ذلك في الشعر, كما ورد في الأخبار والنوادر وحوادث التاريخ والقصص, وبالرغم من الثراء الظاهري الذي يتسم به تراثنا العربي من أدب يتجه إلي الطفل لأثارة الخيال, وبث أفكار لها طابع خلقي وإنساني إلا أنه في حاجة إلي تخليصه من جو الرعب والخوف والشطارة والغرائب, فظلال الرعب تتداعي وتظل كامنة في الوجدان. .. ولعل شعر الأم الذي يوجه للطفل تدليلا, ومداعبة, وتنويها وفخرا... أن يكون أكثر ما ورد في هذا المجال في الشعر العربي القديم, وهو يقترب مما يحكي في التراث الشعبي من تنغيم في الأداء, وهدهدة في الحركة بغية التدليل أو النوم. ولقد كانت أبيات امرأة أبي حمزة الضبي أكثر الأشعار شهرة في هذا المجال... وهي أبيات شعرية تتسم بالسرعة والإيجاز, ذات إيقاع سريع, وتركيب لغوي مفهوم, خال من الغموض أو الألفاظ المعقدة والغريبة, وهي مواصفات أدب الطفل, والأدب الجميل عامة. وباح النص الشعري بهموم المرأة, كما باح بدرجة من الوعي بتأثير الايقاع علي الطفل في الحركة والمشاركة كانت المرأة لا تنجب إلا إناثا, فغضب الزوج منها, وتزوج عليها رغبة في البنين... فقالت هذه الأبيات الشعرية, وهي تداعب ابنتها الصغيرة, وترقصها في حركة إيقاعية تتنامي مع إيقاع الأبيات, وتنفس من خلالها عن همها وحزنها. ما لأبي حمزة لا يأتينا/ يظل في البيت الذي يلينا غضبان ألا نلد البنينا/ تالله ما ذلك في أيدينا وإنما نأخذ ما أعطينا/ ونحن كالأرض لزارعينا... تنبت ما قد زرعوه فينا ومثل هذه النصوص موجود في الأدب العربي, لكنه جاء للتسلية أو الفخر, أو اللهو, ولم يكتب خصيصا للطفل إذ أن الكتابة للطفل جاءت متأخرة.. المزيد من مقالات محمد قطب