يحتفل العالم بشكل عام, وأوروبا علي وجه الخصوص, هذه الايام بذكري مرور65 عاما علي انتهاء الحرب العالمية الثانية في اوروبا وهزيمة النازية في ألمانيا بعد ان كانت الفاشية حليفة النازية قد تعرضت للهزيمة قبل ذلك في ايطاليا. وقد شهد الاحتفال هذا العام ظاهرة ملفتة تمثلت في مشاركة عدد من قدامي المحاربين من دول غربية متعددة تنتمي الي حلف شمال الاطلنطي في العرض الذي أقامته روسيا في الميدان الاحمر في قلب موسكو بهذه المناسبة. وان كانت هذه المشاركة لها اكثر من دلالة علي الصعيد الرمزي من جهة تأكيد انتهاء الحرب الباردة فإن بعض الاصوات داخل روسيا أعربت عن تحفظها تجاه هذه الخطوة, البعض لأن حلف شمال الاطلنطي ما زال بنظر هؤلاء يمثل التهديد الرئيسي للامن القومي الروسي ويسعي لمحاصرة روسيا من كل جانب, والبعض الاخر لان هذه الخطوة لم تتم بشكل تبادلي بعد عبر دعوة محاربين قدامي روس للمشاركة في الاستعراض المماثل الذي يقام في فرنسا مثلا او في اي دولة غربية اخري. ولكن ما يهمنا هنا هو قراءة بعض المعطيات لتلك الذكري ال65 لنهاية الحرب العالمية الثانية في أوروبا. واولي هذه المعطيات تتعلق بأن انتهاء الحرب الباردة منذ ما يقترب من عقدين من الزمان, مكن الجميع خاصة في صفوف الاطراف المنتصرة في الحرب المعروفة باسم الحلفاء, من النظر بشكل موضوعي الي وقائع الحرب بعيدا ولو بشكل نسبي التحيزات الايديولوجية التي عابت ما صدر خلال تلك الحرب, وربما ايضا في اعقابها مباشرة, من دراسات وابحاث وما تضمنته من احكام حول وقائع الحرب ذاتها او كيفية تفسير تلك الوقائع. ومن ذلك علي سبيل المثال لا الحصر, ان العديد من الدوائر الغربية باتت اكثر استعدادا وتقبلا للاقرار بأنه في الحساب الختامي فإن من حسم الحرب في اوروبا لصالح الحلفاء كان الانتصار السوفيتي علي القوات النازية بدءا من معركة ستالينجراد, وذلك بعد ان كانت هذه الدوائر تشعر بالحساسية وتتحرج من او تتجنب الاشارة الي هذه الحقيقة في زمن الحرب الباردة معتبرة ان اي اشارة من هذا النوع تصب لصالح النموذج السوفيتي وما يعكسه من ايديولوجية مناهضة للنظام الرأسمالي الليبرالي الغربي وتعد نوعا من الترويج لهذا النموذج وتلك الايديولوجية. وثاني هذه المعطيات هي ان الدولتين المهزومتين في اوروبا في الحرب العالمية الثانية وهما ألمانيا وايطاليا اصبحتا جزءا مهما من كيان اكبر بات بشكل متنام يضم معظم ارجاء اوروبا ويلعب دورا عالميا متعاظما ومؤثرا, الا وهو الاتحاد الاوروبي, وهو الذي يضم في عضويته ايضا دولا اساسية كانت ضمن صفوف الحلفاء خلال الحرب العالمية الثانية مثل بريطانيا وفرنسا. وبالتالي توحدت, او لنقل علي الاقل تشابهت وتقاربت, منظومة المصالح والقيم بين اعداء الامس, وذلك تتويجا لمسيرة بدأت في اوروبا عام1957 بتجربة دول اتفاق روما, وتدرجت بشكل تدريجي, وربما احيانا بطيء, ولكن علي ارض صلبة, منذ ذلك التاريخ وقد نجحت هذه الدول الاوروبية مجتمعة عبر الزمن في تحقيق تقدم نوعي, ربما يكون غير مسبوق, علي طريق التكامل الاقليمي والاندماج الاقتصادي والمالي وتوحيد التشريعات وكذلك التقدم خطوات نحو صيغة ما من الاتحاد السياسي, مع حسن توظيف قدر لا بأس به من المشترك الثقافي والتاريخي والاجتماعي. ثالث المعطيات التي نتناولها هنا تتعلق بالمطالبة المتزايدة داخل الدول المهزومة في الحرب العالمية الثانية بحذف ما ورد بشأن تعبير الدول الاعداء الذي احتوي عليه ميثاق الاممالمتحدة عند التحدث عن هذه الدول. وان كان هذا الموضوع ما زال مثار جدل او خلاف او تباين في الاولويات داخل صفوف النخب السياسية والفكرية والشعوب في البلدان المهزومة في الحرب, فإنه, ومن باب اولي, ما زال مصدر جدل اكبر في مجتمعات الدول المنتصرة في الحرب, خاصة في ضوء ان البعض داخل تلك المجتمعات يري ان بقاء هذه الاشارة يمثل عامل تذكير للإنسانية جمعاء بألا تسمح بصعود النازية او الفاشية من جديد في اي بقعة من بقاع الارض. وبالمقابل, فإن هناك من يري ان بقاء هذه الاشارة يبقي تحت السطح بعض المرارات التاريخية بمرور الاجيال, وتجعل من الصعب التجاوز التام لما خلفته تلك الحرب من أحقاد وضغائن متبادلة. ورابع المعطيات هي ان الحرب العالمية الثانية, مع كل الشعور بالألم تجاه عدد الضحايا الذي نتج عنها وحجم الدمار الذي ولدته في غالبية مناطق العالم, نجحت في دفع المجتمع الدولي للتعامل بشكل جدي من اجل ارساء دعائم تنظيم دولي جامع تمثل في الاممالمتحدة وما يرتبط بها ويتبعها من مؤسسات وأجهزة تشعبت في مختلف المجالات التي تهم المجتمع الدولي. وبالرغم من كل المآخذ التي تقال عن الاممالمتحدة والانتقادات التي توجه اليها ولأسباب مختلفة, فيبقي واقع ان غيابها كان سيكون كارثيا من وجهة عدم وجود ضمير او صوت اخلاقي وقانوني معبر عن المجتمع الدولي علي اقل تقدير, كما انه وان كانت حروب كثيرة اندلعت عبر العالم في وجود الاممالمتحدة فإن حروبا اكثر عددا وأعمق دمارا كانت ستندلع بالتأكيد في غيابه, وربما لم يكن ليوجد سبيل لوقفها قبل ان يحل الخراب علي العالم بأسره بدرجة كانت بالتأكيد ستفوق كثيرا وبمراحل ما حدث خلال الحرب العالمية الثانية نتيجة التقدم العلمي والتكنولوجي بمعدلات متسارعة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية, وهو الأمر الذي انعكس, ضمن امور اخري, في تضاعف القوة التدميرية للاسلحة. وفي الختام, فإن ما تقدم كان مجرد تأملات وملاحظات في ذكري مرور65 عاما علي انتهاء الحرب العالمية الثانية في اوروبا, ولكنها ليست سوي جزء محدود مما يمكن ان يقال, ومازال يمكن ان يتم البحث فيه وتناوله بالدراسة او النقاش, من مختلف جوانب تلك الحرب واسبابها ومسارها ونتائجها ومواقف اطرافها, والعلاقة بين السياسة والاقتصاد وبين الايديولوجية والسياسة وبين العسكريين والمدنيين في سياقها, حيث انه مازال الكثير مما لم يتم معالجته كاملا او بالعمق الكافي او إصدار القول الفصل فيه من احداث تلك الحرب ووقائعها, وهو امر يجب ألا يقتصر الاهتمام به علي اوروبا, بل علي العالم بأسره, لأن الإنسانية جمعاء عانت من ويلات تلك الحرب المدمرة. المزيد من مقالات د.وليد محمود عبد الناصر