إلي أي حد يكون الآدمي العادي في حاجة إلي الإيمان أو الاعتقاد الشديد بشيء ما, وممن وأين يجد حاجته؟ لا شك أن الإنسان العادي في عصرنا يستعمل عقله أكثر من أسلافه, لا يفعل ذلك بصفة أساسية ولا في كل أموره. لأن معظم أموره يقظا ونائما ترتبه العادات وتنفذه في الحد أو الهزل, والتعب والراحة.. ودور العقل الفردي في العادات ضئيل محدود. وقلما يترك الفرد عادة, إلا لكي يكتسب عادة بديلا عنها يكف بها عقله عن التدخل في حياته ومشاربه فيها. واتباع الانسان لعادته ليس إيمانا أو اعتقادا ولا هو من قبيل الإيمان أو الاعتقاد, وإنما هو في حقيقته وأصله توفير في بذل الطاقة المتعمدة المصحوبة بالتركيز المجهد, والاستعاضة عنها بنوع من المجهود الآلي غير المجهد! أما الإيمان بشيء ما فهو نوع من الثقة القوية غير العادية.. بها يثق الآدمي في قدرة شيء أو شخص علي مواجهة صعوبة أو مشكلة لا يقوي الآدمي ولا يقدر علي مواجهتها وحده بعقله وقوته أو حتي بمعونة ذويه.. وحين يعترف عقل الإنسان لسبب أو آخر بعجزه عن مواجهة إشكاله يكون في حالة استعداد للإيمان التعويضي, وحينذاك يلتمسه ويبحث عنه وقد يرحب به إذا تصور أنه عثر عليه. والكاهن والطبيب يحاولان أن يقدما إيمانا بشيء ما للبائس والمذنب وللمريض والشاكي كل في حدود حرفته.. كذا يحاول الساحر والمنجم أن يبيعا إيمانا من قبيل ذلك لمن يلجأ إلي هذا أو ذاك لائذا بسحره أو تنجيمه علي حل مشكلته أو معضلته.. وكما نري ونلاحظ لا يشترط في الكاهن أو الطبيب أن يكون هو نفسه مؤمنا بصحة وصدق ما يقدمه للطالب والمريد أو العليل, كما لا يشترط ذلك بداهة! في الساحر المنجم, إنما يتعين في الجميع أن لا يبدو عليهم تردد أو تشكك فيما يقدمونه من ذلك. لأن الإيمان بشيء أو أمر ما حدث يحدث أصلا في المتقبل كأثر لشدة ثقته هو, وللظروف الخاصة التي تجعله مستعدا لإيلاء هذه الثقة الشديدة. تماما كما يحدث للمستعد للإيمان الذي يتردد علي مزار أو ضريح أو معبد, أو الذي يتمسح في كتاب أو تعويذة أو أثر يعتقد أنه مقدس أو مبارك, أو في بقية باقية من شخصة مباركة أو طاهرة. علي هذا قام في كل عصر نظام الكهنة ومهنة الطب, واحترف السحرة والمنجمون.. كما قامت المعابد والأضرحة والتعاويذ والتمائم ومخالفات القديسين والأولياء, وأخذ كل ذلك نصيبه في تركيب المعتقدات ونظمها وطقوسها ومراسمها وفنونها, ان صح أن لها فنونا! ولما كان التعامل في الجماعة الآدمية هو ابتداء وانتهاء تعامل أفراد مع أفراد, وكانت الظواهر الاجتماعية المترتبة علي ذلك التعامل هائلة ولا تكاد تحصي.. ومنها ظهور ما قد نسميه إيمان الجماعة أو عقائدها أو دينها أو ملتها.. فهذا النوع من الإيمان لا يخرج عن كونه ظاهرة اجتماعية مهمة يتمثل فيها إيمان أغلبية الأفراد بأشخاص أو بأشياء أو بمعتقدات ليست أشخاصا ولا أشياء, لأن الإيمان هو كما قلنا ثقة الادمي غير العادية بجهة معينة أيا كانت, والجماعة مجموع آدميين فقط, وليست ذات وجود حي منفصل عن أفرادها من الأحياء الذين يشكلون مجموعها أو أغلبية مجموعها, والآدمي في كل جماعة يعتاد علي الثقة والإيمان بجهة أو جهات معينة وعلي عدم الثقة بغيرها, ولم يعتد إلي الآن علي الثقة والإيمان بكل جهة, لأن ذلك في غالبه الملحوظ استسلام العقل أمام عجزه لجهة أخري لمواجهة ما يصادفه من صعاب ومشاكل ومعضلات. ولذلك فالعقائد تحيط أتباعها بآلاف الخيوط التي تذكرهم بها ضمانا لبقائهم في قبضتها فيما لو قطع الاعتياد بعض هذه الخيوط أو أكثرها. واعتقاد الآدمي بجهة غيبية تقدم له العون والمساعدة يؤدي إلي اعتياد عقله علي ترك الأمر لهذه الجهة, ويتسع مجال انسحاب العقل وتراجعه باتساع الاعتياد علي هذا الاعتقاد الذي يمتد وينتشر عرضا وطولا مع الاستمرار في الاعتياد.. فيصير نصيب العقل في توجيه سلوك صاحبه ضئيلا, وتمسي فرصة ترقيه وتطويره محدودة.. وهذا حال البدائيين والمتخلفين الذين تنقسم عقولهم ونفوسهم انقساما شديدا حادا لا يقبل الالتئام والتفاعل والتداخل بين المعتقدات والمصدقات الموروثة المستحكمة غير القابلة للتطوير, وبين أفعال وتصرفات الحياة اليومية التي يباشرها الآدمي أو يمتنع عنها حسب الفائدة العاجلة أو الضرر العاجل بلا دخل في ذلك للعقائد وأحكامها وموافقتها من عدمه لحياة الإنسان كإنسان يشكل وحدة مكونة من عقل ونفس وجسد.. وحدة متعاونة متسقة قابلة للتطور والتقدم والإمساك بكل ما تستطيع الإمساك به مما هو خير وحسن ومعقول ونافع, ونشدان كل ما يتمني العاقل من ذلك ومن السعي الجاد في سبيل تحقيقه حسب ظروفه وزمانه. إذ قلما تتيح مثل تلك المعتقدات والمصدقات الموروثة العاجزة عن التطور فرصة لعقل صاحبها وعواطفه للنمو كإنسان سوي فكريا وعاطفيا صالحا للتآخي والعيش مع غيره من الآدميين ينفعهم وينتفع هو بهم ومنهم, ويرتفي معهم ويرتقون هم معه في حدود امكاناته وامكاناتهم. ومع التسليم بقيمة عقل الآدمي ودوره الفذ في ترقية حضارته العجيبة, يجب التسليم بأن حياة الإنسان مازال يكتنفها غموض هائل, ولايزال هذا الغموض يسودها إلي مستقبل غير قريب وأن الإنسان ملزم بأن يعيش هذا الغموض ويواجهه بشتي الطرق التي ليس فيها لعقله إلا مكان محدود شديد الضآلة.. فهو علي انتمائه لأحد الأديان, ضعيف الإيمان الحقيقي بالله, ولا يصدر في سلوكه وأفعاله وتصرفاته عن معرفة وتصديق بالله مدرك لوحدانيته سبحانه وقدرته, وهو فيما يعيش فيه من غموض لا يؤدي فيه العقل دوره, لا يعرف بالضبط ما يجري داخل جسده ولا ما يدور في وجدانه, ولا ما يتعرض له من مفاجآت في مجتمعه الضخم أو في المجتمعات الأخري التي كثيرا ما تهدد مجتمعه إذا اختلت فيها الأمور, وهذه المجتمعات الأخري غير محصنة بدورها ضد الاختلال شأنها في ذلك شأن مجتمعه.. كما لا يعرف الإنسان من محيطه الطبيعي الذي ليس له آخر إلا قطعا ونتفا وأجزاء وقشورا لا تقيه ولا تقي اخوانه من الكوارث والنكبات البيئية التي قد ينساها ولا تنساه. فالآدم محتاج أشد الاحتياج لكي يعيش إلي اصطناع الأمان إذا لم يجده.. وهو في كل العصور يجد أمانه إما في الإيمان الصحيح بالله الواحد الأحد, وفي قدرته سبحانه وتعالي ونفاذ قضائه وأمره, أو يبحث عن هذا الأمان في الاعتقاد والثقة في جهة أو جهات غيبية تقيه مغبة ما يعرف وما لا يعرف من البلاء المحتمل. وإشكاله الكبير أنه لا يستطيع أن يطور اعتقاده مع تطور عقله وخبرته, وأنه لا يمكنه حتي الآن أن يضيق الفجوة التي تتسع لديه بين العقل وبين معتقد العقيدة, وأن هجرانه العقيدة لا يعني زوال الغموض من حياة الآدمي, ولا زوال احتياجه إلي مواجهة الغيب بالغيبيات الأخري أو بالعقاقير والمغيبات.. هذا وبين الملتزم بعقيدة غير متطورة, وبين غير الملتزم بأية عقيدة قدر من وحدة الحال, لكن بينهما فارقا مهما أن المؤمن مقيد بعقيدته وهي تقيه وتمسك به في حدودها, أما غير المؤمن فمحروم من هذه الوقاية يكون في مهب الريح تقلبه الظروف والحالات النفسية بلا ضابط, فيصير غريبا يصعب فهمه ومسايرته وعشرته علي أمثاله, وهو يحاول أن يسكت قلقه بأي شيء كالقمار والكحول والمخدرات, ولا يتحقق له مراد! إذ الاستقرار النفسي مفقود, ولم يتوصل البشر حتي الآن إلي ضمان هذا الاستقرار بعقار مسكن أو بتدريب جيد! وليس لدي البشر فيما عدا الإيمان الصحيح إلا وسائل وقتية لنسيان ذلك الغموض الكامن المحيط بحياتهم وعالمهم ومصيرهم منذ الأزل, وليس معهم من العقل والفهم ما يرفع ذلك الغموض المزعج الذي يهرب منه وعي الآدمي ولا يطيق وحده الصبر علي مواجهته والتحديق فيه. إن وعي الآدمي بكثافة وجسامة ذلك الغموض الذي لا مفر منه, فرع علي ما وهب من عقل قابل للنمو والاتساع, وهذا ضمن ما يميزه علي سواه من الأحياء التي تعيش علي هذه الأرض..وقد قابل ذلك فيما يبدو لنا استعداد الإنسان في كل عصر للاعتقاد بغيبيات اعتقادا يتفق مع فهمه وفهم عصره للغيب والغيبيات. وفي عصرنا لم تعد الطاقة الكهرومغناطيسية أو النووية من الغيبيات, ورغم أعاجيب الآلات والأدوات والنتائج التي ندين بوجودها لهذه الطاقة أو تلك, ورغم جهل البشر لحقيقة هذه الطاقة أو غيرها. نحن في دنيا الغموض لابد أن نحلم إلي أن نعرف ونعقل ما عرفناه, ونستنفد الانتفاع به ونبني فوقه أحلاما جديدة, ثم تطمس زيادة المعرفة لدينا تلك الأحلام وتقيم رؤي أخري وهكذا, علما بأن العالم ليس له حد يمكن أن نصل إليه نحن المحدودين الذين يتداولون أطوار الأحلام والمعرفة في جو الغموض الكثيف الذي لا ينتهي برغم انتهاء آجالنا!! لم يحيا الإنسان قط منذ خلق حياة واضحة لوعيه تمام الوضوح, وهو لا يتصور الحياة الخالية من الغموض قط, بل لا يتصور امكان وجود حياة واضحة تماما يحياها آدمي.. لأن وضوحها التام ربما أبطل معني الماضي والمستقبل ومعني الأنا والأنت والآخر وأبطل اختلاف بعضنا عن بعض وربما أبطل الذات وفردية الفرد وهويته!! [email protected] www.ragaiattia.com المزيد من مقالات رجائى عطية