الرسالة التي حملها الوزيران أحمد ابو الغيط وعمر سليمان الي الرئيس عمر البشير والسيد سيلفا كير رئيس حكومة الجنوب في زيارتهما الاخيرة للخرطوم وجوبا كانت واضحة تماما ولا لبس فيها, فوحدة السودان من المنظور المصري تستحق كل جهد وكل عمل يحافظ عليها, فهي خيار استراتيجي لا يجب التفريط فيه بأي حال أيا كانت المصاعب والقيود التي تحيط بهذا الخيار, لاسيما وان الفترة المتبقية علي تطبيق الاستفتاء حول مصير الجنوب لا تزيد علي ثمانية اشهر. وهي فترة قصيرة للغاية بالمقارنة مع حجم التحديات والمشكلات المطلوب مواجهتها من أجل الحفاظ علي جاذبية خيار الوحدة بالنسبة للمواطنين في الجنوب. ومع ذلك فلا خيار آخر سوي العمل والنشاط الدؤوب والفعل المحكم المبني علي وحدة المصير بين الشمال والجنوب, بين الشرق والغرب, بين كل بقعة من أرض السودان. وحدة السودان في المنظور المصري ليست محل تشكيك, فهي دائما وأبدا الخيار الاول والأخير, والاسباب هنا ليست كما يتصور البعض مرتبطة بعامل مياه النيل, رغم أهميته القصوي, وانما بجملة من العوامل المتكاملة والمتشابكة معا. فالسودان الموحد القائم علي المواطنة وحرية الاختيار يعني دولة قابلة للنهوض والبقاء ومواجهة الضغوط, ويعني أيضا لبنة من لبنات استقرار الاقليم ككل وهو اولوية مصرية كبري, ويعني ثالثا نقطة عبور إنسانية وحضارية لا يمكن تعويضها بين العروبة والافريقانية. وبمفهوم المخالفة فإن سقوط السودان الموحد لا قدر الله وانقسامه إلي دولتين أو أكثر سوف يعني بؤرة تصادم حضاري بين العروبة والافريقانية ومصدرا دائما للتوتر والصراع, وبابا واسعا لحروب أهلية من كل نوع بين أبناء وقبائل السودان, ومن ثم إقليما للصراع والأزمات التي لن يكون لأحد أيا كان قدرة علي التحكم فيها أو السيطرة عليها. هكذا هو قدر السودان الموحد أن يصبح نموذجا للعيش الحر والكريم لكل أبنائه أيا كان عرقهم أو دينهم و منطقتهم أو أسلوب حياتهم أو طريقة ملبسهم ومأكلهم. والتحدي الأكبر والمعروف للكافة هو أن تستمر وحدة السودان بالمعني الجغرافي كما هو موجود في الخريطة السياسية الراهنة, وفي الآن نفسه أن يصبح بلدا ديناميكيا متطورا وناهضا ونموذجا للتعددية والمشاركة الحرة. وهو تحد كبير يجب عدم التهوين منه, ومن ثم فهو مسئولية كل الاطراف وليس فقط الحكومة أو الحزب الفائز في الانتخابات. كما هو مسئولية دول الجوار, والتي عليها أن تترفع عن الصغائر وألا تتوقع من انهيار السودان أو انقسامه أي جائزة أو منحة أو إضافة أو مصلحة يمكن تحقيقها. فالمصائب إن بدأت بانفصال السودان فلن ترحم أحدا. هكذا تتبلور الرؤية المصرية, فبقاء السودان موحدا هو مسئولية تاريخية مشتركة بين الداخل والخارج. هذه المسئولية التاريخية تتطلب روحا جديدة وقناعات منفتحة والنظر إلي المستقبل والتغاضي عن أخطاء الأمس القريب, والأهم شعارات وسياسات واضحة تماما بلا مناورة أو مراوغة تدعم الوحدة قولا وفعلا. أما المواقف الملتبسة أو التي تقول الشئ وعكسه وترفع الشعار ونقيضه وتنهي المسئولية عن الذات وتلقي بها كاملة علي الآخر, فهي الوصفة السحرية ليس فقط للانفصال المريح عبر استفتاء شفاف, وإنما لحرب أهلية وشقاق دائم وكراهية في النفوس سوف يستحيل رفعها أو احتواؤها. سألني أحد الطلاب هل ستعطش مصر قريبا, وهل لا يوجد سوي الحرب لتأمين حقوقنا المائية التاريخية, وكيف يمكن أن نساعد السودان ونحن بحاجة إلي مساعدة الكل للحفاظ علي حقوقنا المائية؟ وبالرغم من أن السؤال وتفريعاته عكست التباسا في فهم العلاقة الديناميكية بين المتغيرات التي تحكم علاقة مصر بملف مياه النيل وبالعلاقة الأبدية مع السودان الموحد, إلا أن السؤال عكس نوعا من القلق الشعبي المصري الفطري حول نمط الحياة التي يعيشه المصريون ويتمحور حول مياه النيل كأساس للحياة في هذه البقعة المعروفة بمصر والمحصورة ما بين خط عرض22 جنوبا وشواطئ البحر المتوسط شمالا. هذه الأسئلة وغيرها ذات الصلة تلقي بمسئولية كبري علي كل طرف يتناول هذا الملف الحساس والمثير معا, لا سيما في ضوء تكتل سبع دول من دول المنبع وقرارهم توقيع اتفاقية إطارية لنهر النيل, وبدون مشاركة من دولتي المصب أي مصر والسودان تلغي الحقوق التاريخية المكتسبة لهما, وتفرض آليات جديدة تنظم مياه النهر تتناقض مع قواعد القانون الدولي الملزمة لكل الأطراف. وبينما يتطابق الموقفان المصري والسوداني تجاه رفض أي اتفاق لا تشارك فيه كل الدول المشاطئة للنهر, وفي الآن نفسه التمسك بمبدأ المفاوضات كآلية وحيدة لحل أي مشكلات قانونية أو فنية, ومن ثم استبعاد حديث الحروب والمواجهة الشائع في بعض وسائل الاعلام الراغبة في الاثارة علي حساب مصالح الوطن العليا. وبهذا الاطار الكلي تصبح مسألة وحدة السودان خيارا مصيريا لمصر أيضا. وهنا يشيع منطقان في التفكير, الأول يري أن دولة جنوب السودان, إن رغب الجنوبيون في الانفصال, سوف تميل تلقائيا للوقوف مع دول منابع النيل السبع معبرة بذلك عن تحللها من أي التزامات تاريخية سابقة بشأن نهر النيل. والثاني يري أن الامر ليس بهذه البساطة, فالجنوبيون إن حصلوا علي الانفصال من السودان الأكبر, فهذا لا يعني تحللهم التلقائي من الالتزامات القانونية التي التزم بها السودان ككل, بل سيكون الجنوب ملتزما بهذه الاتفاقات التاريخية شأنه في ذلك شأن الشمال. فقاعدة توارث الالتزامات الدولية تنطبق هنا علي الجزءين المنفصلين كما تنطبق علي الكل الموحد. وبالرغم من ميلنا إلي المنطق الثاني, نعتقد أن حالة الانفصال المرتقبة أو علي الأقل التي يرجحها البعض ويعمل علي هديها البعض الآخر, ليست مرهونة بعامل مياه النيل وحسب, فهي مرتبطة بالدرجة الاولي بوضع الجنوب في سياق الدولة السودانية ككل, ونحن في مصر ندرك ذلك جيدا, وثمة علاقات متنامية مع كل الأطراف السودانية في الجنوب والشمال علي السواء. وثمة جهد مصري أصيل يبذل للمساعدة في رفع مستوي المعيشة للجنوبيين عبر اقامة العديد من المشروعات التنموية في مجال الصحة العامة والتعليم والاتصالات وإقامة الطرق, وذلك استنادا الي قناعة بأن من حق أهل الجنوب, وهم الذين عانوا كثيرا جراء الحروب وسياسات التهميش التنموي, أن يجدوا كل صنوف الدعم والمساندة الممكنة من الاشقاء والجيران. وقد يري البعض أن مصر وفقا لهذه السياسات تستعد لاحتمال الانفصال الذي يبدو مرجحا في ضوء المناكفات والمشاحنات التي ارتفعت وتيرتها بعد الانتخابات البرلمانية والرئاسية الأخيرة, والتي قاطعتها بعض القوي السياسية في الشمال والجنوب معا. وفي عالم السياسة الدولية المعقد فإن التحسب لكل الاحتمالا يعد أمرا حكيما في حد ذاته. غير أن ربط تقديم صنوف المساندة التنموية للجنوب بهذا البعد وحسب لا يعبر عن حقيقة الموقف المصري, والذي كما سبق القول ينطلق من مبدأ الحفاظ علي وحدة السودان وتعزيز فرص الوحدة الطوعية عبر الاستفتاء المرتقب مطلع العام المقبل. ويظل السؤال ضاغطا بقوة كيف السبيل إلي بقاء السودان موحدا؟ هنا تأتي إجابات عديدة من داخل السودان نفسه, إحدي هذه الاجابات يدافع عن ضرورة تشكيل حكومة وحدة وطنية عريضة تشارك فيها كل القوي السياسية شمالا وجنوبا, ويكون بندها الوحيد استمرار السودان موحدا, عبر حل كل الاشكاليات التي لم تحسم بعد, سواء في ترسيم الحدود ومشكلة ابيي وتنظيم العلاقة بين الشمال والجنوب ورفع مستوي المواطنة للجميع دون استثناء. وإجابة ثانية تري في عقد مؤتمر جامع أو ملتقي سوداني يجمع كل الاطراف يناقش اوضاع السودان ككل كما يطالب بذلك الحزب الاتحادي بزعامة السيد الميرغني ويقدم صيغة دستورية جديدة لسودان موحد يسعي للمستقبل هو الخيار العملي الوحيد. وعلي المنوال نفسه وإن بتعديلات بسيطة تدعو الحركة الشعبية لاقامة مؤتمر السودان الجديد كما قال بذلك ياسر عرمان من قوي الهامش والديمقراطيين, ويكون بمثابة تنظيم واسع يضم حركات الهامش والقوي الديمقراطية ومؤسسات المجتمع المدني والأفراد في جبهة موحدة تدعو للسودان الجديد.علي أن يصاحب ذلك ترتيبات دستورية جديدة يسنها المؤتمر الوطني الحاكم والفائز في الانتخابات الأخيرة, يكون هدفها دعم الوحدة الطوعية, وإحداث تغيير حقيقي في بنية السلطة المركزية في الخرطوم لصالح الجنوب ودارفور والشرق والمهمشين في وسط وشمال السودان. مثل هذه الاجابات وبالرغم من وجود خلافات طفيفة في الطرح, الا انها تؤكد أن خيار الوحدة هو خيار كل السودان, وان التحرك النشط هو مسئولية كل القوي سواء التي في المعارضة أو في الشارع أو في مؤسسات الحكم. انها مسئولية تاريخية كبري أن تمنع انفصالا سيقود حتما إلي مأس كثيرة وحروب لن تستثني احدا, لا في الداخل ولا في الخارج. ومن يتصور غير ذلك فهو من الواهمين.