أسوأ ما أفرزته الديكتاتورية في العقود الستة الماضية من تاريخنا هو العقم في الفكر السياسي الإبداعي, أو إصابة المجتمع ب أنيميا الخيال السياسي. لم يكن من الصعب علي الجماعات وبعض الأحزاب والقوي السياسية أن تعارض النظام القمعي البائد, وأن يقدم الإخوان والسلفيون والجمعية الشرعية والكنيسة الخدمات الاجتماعية اليومية للناس, لكن ما أن أطاحت الثورة بالنظام حتي وجد الجميع أنفسهم بلا قواعد أو فلسفة سياسية يستهدي بها عند إعادة بناء هياكل الدولة ومؤسساتها. والنتيجة هي المأساة التي نعيشها هذه الأيام شعبا وحكما ومعارضة. العقم الفكري السياسي بدأ في الحقبة الناصرية واستمر أثناء زمن السادات, فلم تنبت تربتنا الأكاديمية والثقافية رموزا فكرية سياسية تنظر لترتيب القيم العليا الحاكمة أو تحقق للمصريين, في حزمة واحدة, منظومة العدالة الاجتماعية والحرية واحترام حقوق الإنسان. وجاءت العقود الثلاثة الأخيرة تحت حكم المخلوع حسني مبارك لتمارس السلطة فيها غواية معظم النخب الفكرية الأكاديمية الواعدة, فتفاقمت المأساة. تحول عدد ممن كنا نراهم نواة لمفكرين إلي ذيول سلطة واستثقلوا المهمة الحضارية اكتفاء ببريق الشهرة وفتات موائد الحاكم. لقد تصدي للقيادة والحكم والمعارضة بعد الثورة رموز حركية نحترمها جميعها, ونسلم بحقها في أن تري ما تراه من رؤي, ومع ذلك فمن حقنا أن نتساءل عن مدي عمق تلك الرؤي واتساقها مع البيئة والواقع والثقافة المصرية. أتحدث هنا عن الجميع. أبدأ بالفكر القومي والاشتراكي, هل هناك من طوره وجدد فيه بعد وفاة ناصر واغتيال السادات, ثم انهيار الاتحاد السوفيتي, والصعود الإسلامي؟ هل تعد أطروحة جمال حمدان خطة طريق أم محض وصف وتفسير؟ وأثني باليمين: هل استطاع الإسلاميون والمسيحيون بجميع أطيافهم الحركية أن يقدموا مفكريين سياسيين من وزن حسن البنا أو سيد قطب أو حامد ربيع؟ لم أر في عهود ناصر والسادات والمخلوع مبارك سوي المستشار طارق البشري ود. محمد سليم العوا, ثم الراحل عادل حسين ود. رفيق حبيب, وإلي حد ما المستشار المأمون الهضيبي الذي أعرف أن إسهاماته الفكرية لم تدون, والدكتور عبد الوهاب المسيري الذي استغرقه العمل الموسوعي عن الصهيونية. أظن أن ما قدموه جميعا لم يسعف بالقدر الكافي مجتمعا ما بعد الثورة. ولم تستطع كلية الاقتصاد والعلوم السياسية أن تخرج لنا أستاذا في حجم وعلم العلامة حامد ربيع. استبشرنا لفترة بأحد تلامذته, لكن الرجل بدا بعد الثورة كمن ضاعت منه البوصلة. التيار الليبرالي كان آخر عهدنا به علي مستوي الفكر الراحل سعيد النجار, وقد حاول معه من خارج الحدود الدكتور إبراهيم عويس أستاذ الاقتصاد بجورج تاون. وعلي حد علمي لم ينتج أي من الليبراليين الجدد بمن فيهم د. سعد الدين إبراهيم( الذي بدأ يساريا) نسقا فكريا يقبله المجتمع قبولا حسنا حتي اليوم. وبرغم الإقرار بأن الإخوان نجحوا في اكتشاف وتربية وتنشئة قيادات شابة كثيرة بعكس الحال في القوي والأحزاب السياسية المصرية, ومع التسليم بأن ما حققه الحركيون الإخوان علي صعيد نفع الجماهير لا ينكره إلا جاحد, إلا أن كثيرا من القيادات الحركية الإخوانية في نظر البعض ظلت أسيرة المشكلات اليومية والأزمات الخانقة في الريف والمدن, أو مستغرقة في إدارة الصراع اليومي في الاتحادات الطلابية والنقابات والمجالس المحلية والبرلمان. ولم تسفر معاناة الإخوان حركيا عن نسق فكري تنظيري في شأن بناء وترتيب القيم العليا والإبداع في وسائل تحقيق منظومة العدالة الاجتماعية مع الحرية واحترام حقوق الإنسان. نعم شهدت الثمانينيات والتسعينيات علاقة وعناقا بين خبرات الحركيين الإخوان, وبين الفكر والمفكرين خارج التنظيم( من الأسماء التي ذكرت), لكنها لم تسفر حتي الآن عن خصوبة فكرية عالية. المزيد من مقالات حازم غراب