إذا كان عام1979 هو عام تحكم الأصوليات الدينية في المجال الديني والسياسي فليس معني ذلك أنها لم تكن متحكمة في المجالات الأخري, إذ إنها بالفعل تحكمت فيها عندما تحكمت في العقل الذي هو أساس أي تحكم بسبب أن الانسان حيوان عاقل في المقام الأول. وإذا كان ذلك كذلك, وهو بالفعل كذلك فالسؤال اذن: ماذا حدث للعقل من أجل أن يكون أساس بزوغ الأصوليات الدينية- السياسية وغيرها من المعارف الانسانية؟ كان العقل, في القرن الثامن عشر, هو أساس بزوغ التنوير, أي أساس الدعوة إلي أن يكون العقل ذاته هو سلطان ذاته فماذا حدث من تغير لهذه الدعوة حتي ينشأ التيار الأصولي السياسي الذي ينكر أن يكون العقل هو سلطان ذاته؟ الجواب يكمن في بزوغ ما يعرف باسم ما بعد الحداثة, والسؤال اذن: ماذا يعني هذا المصطلح؟ نجيب بأن نحدد أولا معني الحداثة ثم نثني بأن نحدد معني ما بعد الحداثة. الحداثة تعني الايمان بالعلم والثقة في التقدم بلا حدود, وما يلازم هذا وذاك من ثورة علمية وتكنولوجية حدثت في القرن العشرين. أما ما بعد الحداثة فهو علي النقيض من الحداثة لأنه علي نقيض من العقل المتنور. وكان الفضل في إفراز هذا النقيض يعود بزوغ مدرسة في ألمانياالغربية أطلق عليها اسم مدرسة فرنكفورت ومعهد البحوث الاجتماعية بقيادة فيلسوفين يهوديين هما تيودور أدورنو(1903-1969) وماكس هوركهيمر(1895-1973) اللذين نشرا سويا الكتاب العمدة لهذه المدرسة وعنوانه ديالكتيك التنوير(1944). فكرته المحورية أن التنوير ليس إلا خداعا للجماهير لأنه يستند إلي ثقافة شعبية هي عبارة عن مصنع لانتاج سلع ثقافية نمطية مثل الأفلام والبرامج الاذاعية والمجلات التي كان من شأنها تحويل المجتمع الجماهيري إلي مجتمع استهلاكي يفرز ملذات عابرة واحتياجات زائفة في ظل نظام رأسمالي. وفي عام1979 ارتأت دار نشر فرسو وهي أكبر دار نشر بلندن متخصصة في إصدار مؤلفات اليسار الجديد أن تتولي اصدار ترجمة انجليزية لذلك الكتاب لأن أفكاره صالحة لمهاجمة دكتاتورية ستالين ورأسمالية الدولة من حيث إنهما علامتان علي انهيار العقل بديلا عن إعلاء العقل. وفي نفس عام1979 صك الفيلسوف الفرنسي جان فرانسوا ليوتارد(1924-2002) مصطلح ما بعد الحداثة في كتابه المعنون حال ما بعد الحداثة, وهو عبارة عن تقرير كلفه بكتابته مجلس الجامعات بمدينة كويبك بناء علي طلب من الحكومة الكندية ويدور حول مكانة المعرفة في مجتمع محكوم بلغة الكمبيوتر والذكاء الصناعي والترجمة الالكترونية. وهنا يثير ليونارد تساؤلا عن مدي اختلاف المعرفة العلمية عن أشكال المعارف الأخري, وعن مدي التأثير الايجابي للمعرفة العلمية علي الأفراد والمجتمعات. وهنا أيضا يقف ليوتارد علي نقيض جماعة العلماء التي تري أن المعرفة العلمية هي الشكل الوحيد للمعرفة, وهي رؤية من شأنها أن تثير تساؤلا عن السبب في أن معرفة الذات الانسانية عصية علي المعرفة العلمية, الأمر الذي من شأنه أن يفضي إلي القول بأن المعرفة لا تطلعنا علي ما هو معروف إنما علي ما هو غير معروف. ويخلص ليوتارد من ذلك إلي أن العديد من مجالات الحياة عبارة عن ألاعيب لغوية. صحيح أن العلم يستند إلي تجارب, ولكن الصحيح أيضا أننا نتلاعب باللغة في إطار علاقتها بالتجارب المعملية. هذا بالاضافة إلي أن هذه العلاقة ناقصة ومعقدة, وهو الأمر الذي يسمح لنا بالتلاعب ونحن نتعامل مع اللغة. ويخلص ليوتارد من ذلك أيضا إلي أن الذات الانسانية قد تدخل أيضا في شيء من هذا التلاعب. والنتيجة الحتمية ألا أمل علي الاطلاق في أن تكون المعرفة العلمية وسيلة للاجابة عن المشكلات الفلسفية ومن بينها مشكلة الذات الانسانية. والسؤال اذن: هل التشكيك في قدرة المعرفة العلمية علي دراسة الذات الانسانية علي نحو ما ورد في تقرير ليوتارد يعني التشكيك في العلم ذاته أم التشكيك في اقتناص اليقين المطلق؟ جوابي أن التشكيك يهز اليقين المطلق ولكنه لا يهز المعرفة العلمية لأن هذه المعرفة نسبية بحكم أن العقل الانساني ليس عقلا مطلقا علي غرار عقل الله إنما هو عقل نسبي. والجواب بعكس ذلك يوقعنا في الأصولية الدينية التي تتوهم أن العقل الانساني في امكانه اقتناص الحقيقة المطلقة. والمفارقة هنا أن هذا العقل ذاته في امكانه الوقوع في هذا الوهم. والسؤال اذن: كيف يمكن منع العقل من الوقوع في ذلك الوهم؟ المزيد من مقالات مراد وهبة