لا يفيد مصر ولا يفيد الرئيس, ومن يقف وراءه سواء حزب الحرية والعدالة الذي ينتمي إليه, أو جماعة الإخوان المسلمين, اختزال المشهد السياسي الراهن والممتد منذ الإعلان الدستوري الذي أصدره الرئيس في عنصر واحد هو عنصر التخريب والتعدي علي قصر الاتحادية أو غيره من المنشآت, ذلك أن الخروج عن سلمية التظاهرات كما شوهد خلال الثلاثة أيام الأخيرة من المشهد لا يمثل سوي لحظة مقتطعة من المشهد الاحتجاجي الممتد والزمن الثوري الذي تشهده البلاد. هذا الاختزال للمشهد السياسي الراهن يهدف إلي إبراز الجزء للتغطية علي الكل, وتركيز الضوء علي عنصر واحد, بديلا لرؤية كافة العناصر التي يشكلها ويشملها المشهد الراهن, يهدف هذا الاختزال إلي تغييب الصورة الكاملة, والتركيز علي جزء منها باعتباره كل الصورة, وكذلك تمييع المسئولية وتوزيعها علي كافة الأطراف بهدف تغييب دور المسئول الأول والفاعل الأصلي ألا وهو الرئيس والجماعة. المشهد السياسي الراهن معقد ويتكون من منظومة كبيرة من المطالب والقوي والتراكمات, ودون تفكيك هذا المشهد والتدقيق في العناصر التي أفضت إليه وتشخيص الأسباب التي دفعت به إلي التطور علي النحو الذي شهدناه, لن يكون في مقدور مصر الخروج من الأزمة الراهنة, ولا اقتراح الحلول والتصورات والبدائل التي يمكن أن تساعد وتسهم في الاستقرار ومحاصرة العنف والمضي قدما في طريق التحول الديمقراطي والاجتماعي. ثمة أسباب عديدة دفعت إلي تصدر هذا المشهد السياسي المتأزم لابد من إدراكها وأخذها في الاعتبار, إذا ما توفرت النية الحسنة وحسن المقصد لتشخيص الداء والعلة ورسم خريطة للخروج الآمن من المأزق الراهن. ثمة أولا التناقض الذي يلحظه الجميع في السياسات المصرية التي تبناها النظام, منذ انتخاب, رأس الدولة, والذي يتمثل في التناقض بين اللين والرفق والدبلوماسية الذي يبديه النظام في سياسته الخارجية, خاصة عندما يتعلق الامر بإسرائيل والولايات المتحدةالأمريكية والمعاهدة وسيناء, وبين السياسات الداخلية التي تتسم بالقسوة والاستبداد والاستعلاء والاستحواز, وتطبيق مبدأ المغالبة. هذا التناقض الملحوظ بين وجهي السياسة المصرية الداخلي والخارجي, يثير الكثير من الأسئلة ويتضمن العديد من الألغاز ويفتح منافذ للشك والحيرة ويخالف توقعات قطاع كبير من المصريين من النخبة والمواطنين والثوار علي حد سواء, بتبني مصر بعد الثورة وبعد الانتخابات الرئاسية خاصة سياسة متشددة أو علي الأقل سياسة مستقلة إزاء العالم الخارجي خاصة أمريكا وإسرائيل والمعاهدة, وسياسات داخلية تنحو نحو المقرطة وإرساء أسس ومبادئ الدولة الديمقراطية المدنية وليس دولة تتحكم جماعة أيا كان وضعها أو وزنها في مفاصل الدولة المصرية. لقد رأي المصريون بأم أعينهم دولتهم تسير في طريق التفكك, حيث أهين قضاؤها, وحوصرت أهم محاكمها, وتم الالتفاف حول أحكامها واستحوذت علي مفاصلها جماعة نصفها معلن والآخر لا يعلم الشعب عنه شيئا مذكورا. أما ثاني هذه الأسباب فيتمثل في نقض ما أجمعت عليه أدبيات السياسة حول الدولة, أي أن الدولة في أي مجتمع يجب أن تحتكر العنف في المجتمع; أي العنف القانوني سواء حكمت الدولة أو خضعت لطبقة معينة أو احتكرت العنف نيابة عن المجتمع وباسمه, ولقد أصبح ظاهرا للعيان خاصة بعد الثورة أن الدولة لم تعد تحتكر العنف بل ثمة جماعات غامضة من البلطجية تارة والإخوان تارة أخري والقناصة وقتلة الثوار تارة ثالثة, فالدولة لم تستطع احتكار العنف في المجتمع, أو ممارسته باسم المجتمع, صحيح أن ظروف ما بعد الثورة سمحت بتفكك جهاز الأمن ولكن سرعان ما حظي هذا الجهاز بدعم من النظام الحاكم استثمر في مواجهة المواطنين. ومن المؤكد أن العنف الذي تحتكره الدولة ليس القتل بل هو فرض النظام والقانون وهيبة الدولة واحترام القوانين عبر الردع; أي إلزام المواطنين باحترام القانون دون اللجوء إلي القوة باستثناء حالات التلبس والتخريب والخروج عن القانون. أما ثالثة الاثافي فتتلخص في مثلث الإحباط وانسداد الأفق في حياة كريمة علي الصعيد الاقتصادي الاجتماعي, والاتجاه صوب تهميش كافة القوي السياسية في صناعة القرار, وتجاهل مطالب الثورة التي لا تزال عالقة في الهواء وتفتقد لأية رؤية لتحقيقها في أجل منظور زمنيا أو سياسيا. ذلك أن قطاعا كبيرا من المواطنين والثوار والقوي السياسية من بينها بعض حلفاء النظام الراهن, يرون أن مطالب الثورة قد غابت عن وعي المسئولين والحكومة والرئيس, وحل محلها مصالح الجماعة التي تقف وراء الرئيس, وأن إنجازات الثورة اختزلت في إنجازات الرئيس وجماعته أي السيطرة علي مقدرات الدولة وانتخاب رئيس مدني ينتمي إليها. أرتكز تبرير الوضع الراهن واستمراره علي أمرين, الأول مرجعية صندوق الانتخابات والثاني الحفاظ علي الثورة, وكلا الأمرين لا يصمدان في مواجهة أي تحليل, فالأمر الأول المتعلق بصندوق الانتخابات والأغلبية التي أسفرت عنه لتيار الإسلام السياسي, مردود عليه بأن الصندوق الانتخابي جزء من العملية الديمقراطية وليس كلها, واختزال تلك العملية في الصندوق, دعاية لا أكثر, فالعملية الديمقراطية والتحول الديمقراطي يشمل سيادة القانون ودولة القانون, ووضع دستور يؤمن التحول الديمقراطي وتداول السلطة وتوقير المواطنين وحظر استخدام العنف ضدهم. ولا شك أن تشخيص الموقف وتحليل الدوافع والأسباب وراء تشكل المشهد الراهن وقراءة العناصر والتراكمات التي أفضت إليه يمثل خطوة نحو العلاج والحل, والقفز فوق ذلك يعد من قبيل سوء النية والتبرير لاستمرار الوضع الراهن في أفضل الأحوال, أو التمسك باستمرار المشهد الراهن الذي يمثل بيئة مناسبة لإنتاج الانقسام والاستقطاب والعنف في أسوأالاحوال. ولا شك أن الحل الأمني لن يتمكن من حل ومعالجة المشكلات السياسية بل سوف يفاقم الاوضاع, ويعزز قصور السياسة عن تدارك الموقف. المزيد من مقالات د. عبد العليم محمد