كانت المفارقة في توقيت هذا المؤتمر رؤية للتراث الحضاريالذي أنطلق في القاهرة برعاية وزراة الآثار ومنظمة التعاون الاسلامي و مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والآثار الاسلامية بأسطنبول في وقت شديد الحساسية. فأحداث الشوارع المصرية ساخنة و المشاحنات السياسية هي صاحبة الصوت الأعلي في بر المحروسة حتي ان ما يحدث حولنا في العالم يبدو مجرد مشاهد شاحبة أو خيالات بعيدة. فلا شئ يعلو فوق صوت أحداث مصر المحروسة وإن كان حدثا وقع منذ عامين يمكن أن أعتبره إفتتاحية. فلا يزال الناس يذكرون ما حدث في بداية الثورة من اقتحام للمتحف المصري وتعرضه لمحاولات السرقة التي أحبطها المصريون. ولم يكن المتحف المصري وحيدا فهناك مساجد أثرية تعرضت هي الأخري لسلسلة من النهب المستمر وتعديات كبيرة علي حرم الآثار في القاهرة التاريخية وبالاضافة إلي صدور فتاوي تبدو غريبة علي المجتمع. هذا عن بر مصر..أما في سوريا فقد تعرض اثنا عشر موقعا أثريا ومتحفا للتدمير, ومازالت آثار العراق تعرض في كثير من صالات المزادات الدولية, ومازال العبث الاسرائيلي بالمقدسات الاسلامية والمسيحية مستمرا, وتأتي واقعة حرق مخطوطات تمبكتو الأخيرة كصفعة كبيرة للتراث الحضاري. الحفريات مستمرة تحت المسجد الاقصى وهكذا فقد أكتملت الصورة التي يري د. محمد إبراهيم وزير الدولة لشئون الآثار أنه لابد من إعادة الاعتبار في الشارع لهذا التراث. ولهذا هناك عبء يتحمله الاعلام من نشر للمعرفة التنويرية, ومهمة يقوم بها رجال الدين وهي التصدي للفتاوي المغرضة, ودور للمهتمين بالآثار والحضارة لتوضيح الوجه المشرق للحضارة المصرية. ويتحدث د. أكمل الدين إحسان أوغلو أمين عام التعاون الاسلامي عن حقيقة وجود آراء متطرفة تنم عن جهل لدين حنيف يتسم بالوسطية والاعتدال. فلا يوجد شبهة عبادة للأوثان الآن. كما أن العالم الاسلامي يواجه مشاكل طمس الهوية ومنها مشكلة تهويد القدس. فإسرائيل تدخل رسومات وكتابات عبرية علي الاسوار الاسلامية لتوحي بأنها يهودية وتوجد حفريات خطيرة تحت المسجد الأقصي المبارك. وفي سوريا تعرضت الآثار للتدمير العشوائي نتيجة للغارات الجوية خاصة في دمشق وحلب. وهناك نبش لقبور أولياء الله الصالحين وحرق للمخطوطات في حين أن موقف الاسلام حاسم فيما يخص أحترام المنشآت وعدم تدميرها. ولهذا فلابد من وجود نصوص قانونية ونشر للوعي الصحيح بين الناس. في ساحة الأهرامات: ويؤكد د. علي جمعة مفتي الديار المصرية أن علماء مثل المقريزي والادريسي كتبوا في هذا المجال حيث أورد المقريزي أن شخصا من العباد أسمه صائم الدهر قرر هو وجماعته خشم أنف أبو الهول وكان هذا من الجهل حيث ظن أنه من الأصنام التي تعبد ولكنه في الاصل بني في هذا المكان ليمنع الرمال من تغطية هذا المكان من الجيزة. وقال الشيخ الادريسي أن ساحة الاهرامات زارها الأنبياء وأن ثلاثمائة وخمسين من الصحابة الذين دخلوا مصر زاروا الهرم وبعضهم كتب عليه فلان يوحد الله. كما أن الصحابة كانوا يصلون في ساحة الهرم تبركا بصلاة الانبياء فيها. وهذا هو الفارق بين ما كانت عليه الصحابة وما عليه العباد المتأخرين. فنحن أمام مأزق حضاري وهناك فتوي صريحة بأن المحافظة علي الأماكن والمباني التاريخية لا حرج فيها شرعا. ومن الفوائد الجليلة أنها تذكر الناس بما حدث وتعطي دليلا واقعيا علي صحة الوقائع, أما إزالتها وهدمها فيمكن أن يكون ذريعة لإنكار هذا الحدث. وقد روي عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلي الله عليه وسلم نهي عن آطام المدينة أن تهدم. وآطام المدينة هي الحصون. أما دعوي أن تعظيم هذه الاماكن محرم, وقد يكون من ذرائع الشرك لأنه يؤدي إلي أن يعتقد العوام بركة تلك الاماكن فليست بمسلمة, لأن الشرع لم يمنع من مطلق تعظيم غير الله, وإنما يمنع منه ما كان علي وجه عبادة المعظم كما كان يفعل أهل الجاهلية مع معبوداتهم الباطلة. أما كون ذلك من ذرائع الشرك, فالشرك تعظيم مع الله أو تعظيم من دون الله, ولذلك كان سجود الملائكة لآدم عليه السلام إيمانا وتوحيدا, وكان سجود المشركين للأوثان كفرا وشركا مع كون المسجود له في الحالتين مخلوقا, لكن لما كان سجود الملائكة لآدم عليه السلام تعظيما لما عظمه الله و كما أمر الله, وكان سجود المشركين للأصنام شركا مذموما. واعتقاد وجود بركة أو حصولها بواسطة مخلوق معين لا علاقة له بالشرك من قريب أو بعيد فضلا علي أن يكون ذريعة له. ويضيف د. محمد سليم العوا المفكر الاسلامي أن التراث هو تجميع لثقافات تتراكم جيلا بعد جيل لتصنع الهوية. ولذلك في مصر نجد المصري المسيحي والمصري المسلم ليسا منفصلين عن التراث الفرعوني والقبطي والاسلامي. والتلاحم التراثي بين شعوب المنطقة هو ما صنع أمة واحدة لأن الصلات لم تنقطع حتي في زمن الاستعمار. وهذه الأفكار ليست مصرية وليست مبنية علي صحيح الدين. والسؤال هل نفعل هذا ونترك المخطوطات والآثار التي نهبت. فقد سرق من مصر أقدم مخطوطة للإمام الشافعي وهي مخطوطة أصلية أعتقد أنها ستظهر بعد سنوات للبيع في صالات المزادات. ويوضح د.خالد آرن مدير مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الاسلامية أرسيكا أنه من المهم أن نفهم اعتراف الاسلام بجميع الاديان السماوية. وقد تكفل دستور الدولة الاسلامية الأولي في المدينةالمنورة بحماية الأرواح والممتلكات والمساكن وأماكن العبادة والطوائف الدينية الأخري. فالاعتداء علي الموجودات التراثية السابقة للاسلام أمر غير مقبول في الاسلام. في بلاد الحرمين: أما د. بديع العابد رئيس الجمعية الأردنية لتاريخ العلوم فقد أشار إلي حقيقة تأمين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه الكنائس والبيوت في القدس, في الوقت الذي يصدر فيه الغرب بعدها بألف عام مواثيق لحماية المنشآت ولا يلتزم بها المسلمون الذين أخرجوا أول وثيقة أمان. ويتعرض د. محمد الكحلاوي أستاذ الآثار الاسلامية إلي أنه في الوقت الذي يوجد فيه علم آثار توراتي وما يحدث الآن في القدس, يوجد فجوة في المجتمع بين التراث والناس لأنهم لم يتعلموا في المدارس معني التراث الوطني مشيرا إلي حالة القبول والتسامح التي حملها المسلمون الأوائل. فأول عملة ضربت في عهد المسلمين تحمل صورة صليب وعلي الوجه الآخر وجدت عبارات التوحيد الاسلامية. كما أن دير سانت كاترين يحتمي بمأذنة المسجد الموجود بجانب الكنيسة. أما منطقة الفسطاط أو مصر القديمة التي شهدت تأسيس أول عاصمة بعد الفتح الاسلامي فهي منطقة تحوطها الكنائس التي بني معظمها في مرحلة لاحقة للفتح الاسلامي لمصر وتأسيس الفسطاط. كما أن الخطاط والفنان المصري قد ابدع في كتابة المصحف والأنجيل. وتبدو سورة مريم في المصحف الشريف هي السورة التي تحمل أكبر قدر من الزخرفة عند الكتابة. فقه العمارة: ويؤكد د. خالد عزب من مكتبة الاسكندرية أن الغرب قد أهتم منذ قيام أسرة مديتشي بأيطاليا بعرض ما لديها من تحف في فلورنسا بتقديم خدمة تربوية للطفل الذي يزور المتاحف ويقرأ التاريخ ويتعرف علي سيرة الاجداد. الا أن بعض الكليات تدرس التراث من خلال منهج وصفي يهتم فقط بوصف الشكل المعماري للأثر وكأنه وحدة قائمة بذاته, لا رابط بينها وبين المجتمع. وهناك منهج آخر هو منهج التأصيل المعماري لكل عنصر زخرفي يذهب به الأصل إلي جذور فرعونية أو يونانية بهدف تجريد المسلمين من كل إبداع. ولهذا أصبح النظر إلي العمارة الاسلامية ينحصر في مشربية أو مقرنصات بغير قراءة صحيحة للمنظومة المتكاملة لفقه العمارة. ويحدد د.عادل إسماعيل خبير التراث العمراني المشكلة في أن التراث بشكل عام يحتاج إلي تعريف كما أن العشوائية والتخريب المتعمد أو غير المتعمد هو أكبر خطر بدليل ما يحدث في القاهرة التي تكونت كثير من منشآتها عبر حقب من عشوائية التخطيط والادارة. فهناك عمارات ومبان نشأت في سرعة وعشوائية وهذا يشكل خطورة شديدة لا تمس سلامتها فقط بل يتطور الأمر إلي محيطها العمراني حيث أنها معرضة للانهيار من وقت لآخر. وهذا دمار مخطط. فالمشكلة تكمن في إدارة التراث في مصر وعدم الوعي الذي يحتاج إلي قوة تشريعية