القتل جريمة يعاقب عليها القانون, والقتل الخطأ أيضا جريمة, وكذلك الشروع في القتل أو التحريض عليه.. بل وصلت قوانين بعض الدول الي تحريم القتل بكل أشكاله بما في ذلك صدور أحكام بالإعدام..ايمانا بأن إزهاق روح أي إنسان حتي ولو كان مجرما أمر مرفوض تماما. وفي المقابل, فإن التعبير عن الرأي حق مكفول بالقانون, ومن وسائله المنظمة المعترف بها وقفة الاحتجاج أو التظاهر..الخ, علي ألا يعرض ذلك الغير للخطر أو يلحق أضرارا بالإنسان أو الممتلكات. في ضوء هذه الحقائق, فإنه عندما يقوم شخص مسئول أو مفروض أنه مسئول بتحريض مؤسسة وطنية مسئوليتها منع ارتكاب الجريمة بأشكالها.. علي ارتكاب جريمة بإطلاق الرصاص علي مواطنين يمارسون حقا مشروعا.. فإن ذلك أمر جلل يعني أن هناك خللا يستدعي وقفة جادة صادقة تعالج القضية برمتها ومن جذورها ولا تكتفي بطرح حوار حول هذه الواقعة وحدها. وأطراف هذه القضية ثلاثة: القانون الذي يمنع الاعتداء علي الغير, والشرطة المسئولة عن حماية الأمن والحد من الفوضي, ثم الشعب وحقه في التعبير عن رأيه, وتكمن سيادة القانون واستقرار الأمن في التوفيق بين الأطراف الثلاثة. *** تعتبر حرية الرأي والتعبير حقا من حقوق الإنسان التي تكفلها المعاهدات والمواثيق الدولية, وهي حسب الإعلان العالمي لحقوق الإنسان حرية اعتناق الآراء دون أي تدخل, واستقاء الأنباء والأفكار وتلقيها واذاعتها بأي وسيلة دون تقيد بالحدود الجغرافية, وينص العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية الصادر عام1966 علي أن لكل فرد الحق في حرية التعبير, مبينا ما يشمله ذلك الحق, لكنه ربط ممارسة هذه الحرية بقيود معينة يجب أن تستند الي نصوص قانونية من أجل احترام حقوق أو سمعة الآخرين, أو حماية الأمن الوطني, أو النظام العام, أو الصحة العامة والأخلاق, وبذلك فإن ذلك الحق ليس مطلقا. ومصر صدقت علي المواثيق الدولية وجاء الدستور يؤكد هذا الحق, وصدرت قوانين تضع قيودا تنظمه, بعضها تعدل وبعضها مازال يحتاج لتعديل, وبعضها لا يطبق مثل المادة التي تعاقب علي تحبيذ أو ترويج المذاهب التي ترمي الي تغيير مباديء الدستور.. بينما نحن نسمع ونري ونقرأ يوميا المطالبة بتعديل الدستور ونعتبره علامة صحية وتعبيرا عن تطور ايجابي في احترام حرية التعبير. وحرية الرأي حق لا يمكن أن توقع عليه عقوبات, فهو بين الإنسان وعقله وفكره, وهو حصيلة كل انسان حسب خبرته ومبادئه لا قيود عليه, أما التعبير عن الرأي, وهو الحق المكمل لحرية الرأي الذي به يخرج الفكر الي النور, فتوضع عليه قيود لأنه قد يمس الآخرين, إن رغبة الفرد في أن يحترم الناس رأيه يقابلها واجبه أن يحترم رأي غيره, وألا يصيب الآخر بأي أضرار مادية أو بدنية أو نفسية, وبذلك فإن التظاهر حول قضية اختلفت فيها الآراء أو المطالبة بحق يري المواطن أنه حرم منه لابد أن يكون في إطار احترام اختلاف الآراء وتنظيم حق التعبير عن الرأي بلا عنف أو تخريب من أي طرف. *** نعود للواقعة التي أثارت القضية, إن ما صدر عن النائب من تصريحات يعتبر تحريضا علي القتل كما أنه قد يؤدي الي توتر بين الشرطة والمواطنين. والشرطة المصرية لها تاريخ مشرف في الدفاع عن الوطن ومواجهة المستعمر وحفظ الأمن, انه سجل في الوطنية والكفاءة لابد أن نعتز به, وان كنا نذكر أحيانا بعض الحالات الاستثنائية التي تعبر عن تجاوز حدود السلطة وانتهاك حقوق الإنسان, فإن علينا أيضا أن نتذكر الذين وقعوا ضحايا وقدموا أرواحهم في سبيل الوطن وحماية المواطنين.. وان نذكر أنها تصدت لقوات الاستعمار في القناة, ودعمت شباب الفدائيين, لا تستعمل الذخيرة الحية في تفريق المظاهرات ورفضت اطلاق الكلاب البوليسية علي الطلبة, والشرطة المصرية تخضع لإجراءات واضحة ومحددة لاستخدام السلاح ونظام صارم للمحاسبة, يتخرج أفرادها في أكاديمية أصبحت محل تقدير دولي, بها مركز لحقوق الإنسان يعتبر رائدا في العالم العربي, ومن أجل سيادة القانون فإنهم يدرسون الي جانب العلوم الشرطية مناهج القانون بكليات الحقوق كاملة, كما يدرسون أصول الإدارة والعلاقات العامة وحقوق الإنسان.. يقومون بتأمين جميع نواحي الحياة من خلال شرطة المواصلات والكهرباء, والمسطحات المائية والبيئة, والسياحة وأمن المواني والمرور والمطافي, والأحوال المدنية والدفاع المدني, وغيرها.. يمارسون مسئوليات المباحث والضبط والتحقيق والتنفيذ, يؤمنون ظهر الجيش وهو يواجه العدو, وهم يعيشون ظروفا صعبة في أماكن نائية بل تعتبر أشدها فقرا وحرمانا وشغبا وخطورة لأنهم مؤمنون أن لهم رسالة بدونها لا تستقر أمورا ولا تتحقق تنمية, هذه ليست قصيدة في مدح الشرطة لكنها كلمة حق واجبة قد تكون تأخرت. إن مثل ذلك التحريض لن يجد من الشرطة آذانا مصغية, والدعوة التي أطلقها النائب مهما كانت دوافعه لن تصيب غيره, تماما كما أن الرصاص يصيب من أطلقه فيؤذيه ويعاقبه.. ويرتد إليه يوما. ومع الاطمئنان الكامل أن مثل ذلك التحريض لن يؤثر في جهاز له صلابته وتاريخه, إلا أن هذه الواقعة تعني أن هناك حاجة ملحة الي نظرة موضوعية متأنية لما يحمله ذلك الحدث من أبعاد تتعلق بالقوانين التي تنظم الحق في حرية التعبير, وضرورة تطويرها, وبالعلاقة بين الشعب والحكومة وأهمية تفعيل سبل التواصل بينهما, وبتحديد وسائل الحد من التجاوزات من الجانبين.. وهذه لها حديث قادم.