تحل الذكري الثانية لاندلاع الثورة الشعبية العظيمة حزينة ومحملة بالآلام وحبلي بمخاطر جسام. فالوطن مشتعل وأبناؤه يحتربون ومزيد من الأرواح الطاهرة تزهق والدماء الزكية تسفك. ولم يقتص بعد لشهداء الموجة الأولي من الثورة ومصابيها, ولا ممن أفسدوا الدنيا علي الشعب لسنوات طوال. ولا تبدو علامات جادة علي تحرك فعال لنيل غايات الثورة في الحرية والعدل والكرامة الإنسانية. بل تتراكم الدلائل علي أن نظام الحكم التسلطي الفاسد الذي قامت الثورة لإسقاطه, ما زال قائما عفيا, فقط اكتسي مسحة إسلامية شكلية خالية من مضمون قويم الدين الحنيف. وليس من عجب أن عادت الهتافات تتعالي برحيل الرئيس الحاكم وجماعته ومرشدها وأن الشعب يريد إسقاط النظام. فما السبب في هذه الردة الأليمة؟ الأهم من التفسير هو أنه إن كانت هذه عاقبة بضعة شهور من حكم الإسلام السياسي فإن استمرار هذا الحكم دون إصلاح جوهري يعيده إلي جادة الحكم الديموقراطي السليم يعني أن التأزم سيشتد والاحتراب سيستعر والمخاطر ستتفاقم. ولكن لنحاول أن نفسر. ليس من سبب وحيد لهذه الحالة المأساوية. هناك أسباب قديمة نسبيا ولكن السبب الأهم هو طبيعة حكم سلطة الإسلام السياسي الراهنة. السبب القديم الأول هو ما يعرفه الجميع الآن من أن الثورة الشعبية لم تسقط نظام الفساد والاستبداد عندما أعلن الطاغية المخلوع شعبيا تنحيه وتكليف المجلس الأعلي للقوات المسلحة بتسيير أمور البلاد, في قرار غير دستوري وفاقد لأي أساس من الشرعية. الأقرب لحقيقة ما جري حينها هو أن النظام الذي قامت الثورة لإسقاطه نحي رأسه جانبا ليتفرغ للإجهاز علي الثورة بالسم الناقع بطيء المفعول بدلا من الضربة القاضية التي كان يمكن أن تجر علي النظام عواقب وخيمة مثل التدخل الأجنبي. بينما احتفل الثوار في الميادين مبكرا بانتصار ستثبت الأيام فيما بعد أنه لم يكن وأن الدهاء الخبيث سينتصر, ولو مؤقتا, علي براءة الثوار التي غشتها السذاجة السياسية. ويقال أن من يحتفل بالنصر في الحرب قبل أوانه يحفر قبره بيده. وليس في التشبيه بالحرب أي مبالغة حيث يري بعض منظري الثورات أن ما يسمي بالثورة المضادة يبدأ قبل اندلاع الثورة, بمعني أن النظام الذي تسعي الثورة لإسقاطة يعد العدة لمقاومة الثورة المحتملة من قبل شبوبها. وقد تبين أن قسما من الفوضي التي كان يهدد بحدوثها محمد حسني مبارك إن هو ذهب كان مخططا له مسبقا في دوائر أمن نظامه. وإن كانت الحقيقة لن تتكشف كاملة حتي ينجلي عن مصر غمام الحكم التسلطي الذي طابعه الأصيل التعتيم وانعدام الشفافية والمصارحة. وحيث مغانم الحكم التسلطي المتزاوج مع الفساد جد هائلة فالمعركة بين الثورة الشعبية والقوي المعادية لها لا تقل عنفا عن الحرب الضروس. ولا ريب في أن الحكم العسكري للفترة الانتقالية, أو كما يسميها بعض الفصحاء الانتقامية, لم يأل جهدا في ملاحقة الثوار واضطهادهم وإشاعة الفرقة بينهم واستمالة بعضهم, وشهدت تلك الفترة انتهاكات لحقوق الإنسان يندي لها الجبين المتحضر مثل كشوف العذرية البربرية وانتهاك كرامة السيدات المتظاهرات وحياؤهن بل وسحق المتظاهرين بالمدرعات, وتمكين الغوغاء من الفتك بالمتظاهرين في ظل ما سمي بالطرف الثالث المجهول, والذي ما ظل مجهولا, وإن تكشفت مؤخرا أمام قصر الاتحادية مؤشرات عمن يمكن أن يكون قام بهذا الدور الخسيس. إلا أن الحقيقة تقتضي الاعتراف بأن بقايا نظام الحكم التسلطي قد استفادت من عون بعض المدنيين الذين إدعوا الانتماء للثورة أو أشيع عنهم ذلك بنشر الإشاعات المغرضة من قبل السلطة في ميدان التحرير علي حين صبت جهودهم جميعا في دعم الحكم التسلطي والتعمية علي خطاياه بل وتجميلها. ولعل الخطيئة الأكبر كانت ابتداع المسار المعيب للتحول الديموقراطي القاضي بإجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية قبل وضع الدستور والذي مهد السبيل لاطراد الحكم الاستبدادي ولسيطرة الإسلام السياسي كليهما ولإفساد صوغ الدستور فيما بعد. ويجب ألا ننسي هنا دور رؤساء حكومات المجلس العسكري ونوابهم ووزرائهم ومستشاريهم. ليس معسكر الثورة ورموزه بخال من المسئولية فقد انزلق بعض الثوار من الشبيبة إلي فخاخ الاستكبار والتناحر والتدليل المفسد من قبل السلطة وتحول البعض إلي أدوات للحكم التسلطي. وإن كان يمكن اغتفار هذه الذنوب للشبيبة بذريعة البراءة والسذاجة السياسية, فلا يمكن أن نغفر لبعض رموز معسكر الثورة النرجسية والتعالي التي أفضت لانكسار المعسكر بكامله في معركة انتخابات الرئاسة, فتكفي الإشارة إلي أنه لو استمع صباحي وابو الفتوح لإلحاف لجنة المائة وانضما في فريق رئاسي واحد لحسمت المعركة لصالح معسكر الثورة الشعبية من الجولة الأولي. أما في الوقت الراهن فمناط المأساة السياسية المحيقة بمصر والتي يمكن أن تطيل الاستعصاء وجرائره, فهي أن تحالف إجهاض الثورة الشعبية قد مهد لاعتلاء تيارات الإسلام السياسي سدة الحكم. وفي النهاية بسبب سلوك هذه السلطة التسلطية المخادعة, والاستئثارية الإقصائية, تخلقت المأساة الحالة بمصر في الذكري الثانية للثورة. والمؤكد أن كل هذه السوءات التي استشرت في ظل سلطة الإسلام السياسي تتناقض مع مثل قويم الإسلام. ومن هنا فإن من الخطأ البين تسمية تيار الإسلام السياسي الحاكم بالإسلامي, فسلوكه ونمط حكمه لا يتفق وقويم الإسلام. ويرد إلي الذهن هنا مثال واضح علي خداع سلطة الإسلام السياسي في إعلان الرئيس عند تسلم مشروع الدستور بأنه يقلص سلطات الرئاسة رغم أن المشروع كان يمنح الرئيس سلطات استبدادية. وهي بالطبع في الدستور أقل من تلك التي اقتنصها الرئيس لنفسه بفرمانات همايونية منفردة في الإعلانات الدستورية التي لم يكن يملك حق إصدارها ومع ذلك أصدرها غلابا, كما تبين من استقالة كثير من مستشاريه احتجاجا. فهم ليسوا إلا تيارا سياسيا تغلبيا يستغل الإسلام لإغواء بسطاء الدهماء والفصيل المتشدد في تيار الإسلام السياسي. فهي سلطة حكم لاديموقراطية مهدرة لسلطان القانون واستقلال القضاء ومغتصبة للسلطة التشريعية, تستقوي بجموع من الغوغاء ولا تتورع من أن توظفهم لترهيب القوي المعارضة وقمعها بل وللاحتراب الأهلي إن ارتأت أن هذا السلوك الشائن يطيل من أمد استملاكها للسلطة. وهكذا فإن تحالف إجهاض الثورة من قيادات المجلس العسكري السابق وتيارات الإسلام السياسي قد مزق الأمة شر ممزق واختطف دستورا مناهضا لأهداف الثورة الشعبية العظيمة, وإن حقق لهم مآربهم الخاصة, بأساليب تقارب اللصوصية. وبعد ذلك اختطف سلطة التشريع لمجلس لم يختره إلا قسم ضئيل ممن لهم حق التصويت, حيث عزف الشعب عن المشاركة في انتخابه بصورة واضحة وكان من الأسباب علي الأغلب أن المجلس لايملك سلطة التشريع. وفي ممارسات لا تفرق عما قامت الثورة لدرئها, توظف السلطة الحاكمة الآن الدستور وسلطة التشريع القلقة لتقييد الحريات المدنية والسياسية, خاصة حريات التعبير والتنظيم والتجمع, تنفيذا لتوجهات الدستور التي تسمح بتقييد الحريات بالقانون, بما يخل بأحد الأركان الأساسية لعصب الديموقراطية, أي التداول السلمي للسلطة. المزيد من مقالات د . نادر فرجانى