علي كثرة ما قرأت من الشعر قديمه وحديثه لم يكن يبكيني من داخلي أكثر من أبيات الشاعر الكبير أمل دنقل عندما كنا نقرأ كلماته ونحن في أيام العمل الطلابي. حين كنا نناضل من أجل حرية المجتمع الذي نعيش فيه ونأمل أن نغير الواقع الذي لامسناه وحللنا مكوناته في أواخر الثمانينات. كان أمل دنقل هو الشاعر,من وجهة نظري, الذي أعطي للنضال صورا جديدة حيث جاء الرجل في أبياته يتكئ علي التراث العربي والإسلامي مما جعل الاتصال بينه وبين جماهيره عميقا وممتدا, كما امتدت شخصياته ورموزه كذلك الي التراث الفرعوني والعالمي مما جعل لكلماته فيضا خاصا لدي كل من اقترب منه ومن البكاء بين يدي زرقاء اليمامة أو مقتل القمر أو العهد الآتي وحرب البسوس. ومن الأبيات التي كانت وقودا للنضال وداعمة للكثيرين من عاشوا مهمومين بالشأن العام من مختلف الأيدلوجيات هي ما قاله أمل دنقل في كلمات سبارتكوس الأخيرة: يا أخوتي الذين يعبرون في الميدان مطرقين منحدرين في نهاية المساء في شارع الاسكندر الأكبر لا تخجلوا ولترفعوا.. عيونكم إلي لأنكم معلقون جانبي.. علي مشانق القيصر ويظل مستمرا في إثارة النضال داخل نفس قارئه حتي يقول: لأن من يقول' لا' لا يرتوي إلا من الدموع .. فلترفعوا عيونكم للثائر المشنوق فسوف تنتهون مثله غدا حتي يصل بنا دنقل إلي قمة المأساة مأساة الاستسلام للاستبداد: والعنكبوت فوق أعناق الرجال ينسج الردي فقبلوا زوجاتكم.. إني تركت زوجتي بلا وداع وإن رأيتم طفلي الذي تركته علي ذراعها بلا ذراع فعلموه الانحناء علموه الانحناء إن أعمالا كثيرة خلقت اللحظة الثورية التي وصلنا إليها في25 يناير, فالثورة المصرية العظيمة لم تولد يوم25 يناير, وإنما كان لها مقدمات طويلة خلقت هذا الغضب العام الذي لم يستثن أحدا يوم الثورة, وصاحبها جهد وتضحيات من أجيال مختلفة وأحزاب وجماعات متعددة والتي- كما قلنا سابقا- شكلت مرحلة التخمر الثوري وكان لابد معها لثورة الخامس والعشرين من يناير أن تصل إلي منتهاها,حيث علمت المصريين دروسا في الصبر علي العمل المدني السلمي الذي لابد منه لكي تجعل من الثورة فعل بناء وتقدم وتغيير فعال. إن عملا طويلا من النضال والتضحيات وطابورا طويلا من الشهداء والمعتقلين قدمتهم مصر حتي تتطهر من الاستبداد والفساد منذ أن زرعت بذرة الاستبداد في النظام السياسي المصري وبعد أن أعطي الدستور صلاحيات مطلقة لرئيس الدولة في ظروف بدت استثنائية وخاصة ولكنها استمرت ووضعت البلاد تحت حكم أنظمة فردية استمرت عقودا طويلة. كانت بداية النضال في سياق ثورة يوليو ومع إعادة تشكل القوي الإقليمية والعالمية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وزوال الامبراطوريات القديمة وأفول شمس الدول الاستعمارية التقليدية وظهور قوي إقليمية وعالمية جديدة تحمل معها تصوراتها ومشاريعها في ترتيب المشهد الإقليمي والعالمي مما نتج عنه تهديدات للأمن القومي المصري بررت للبعض أن يجعل الديمقراطية الاقتصادية مقدمة عن الديمقراطية السياسية ومع توالي الازمات والانتصارات والانكسارات بدت الحاجة للتصحيح وتطوير النظام السياسي.. ففي مارس1954 كانت محاولة الشركاء في ثورة يوليو التصحيح من الداخل حيث حاول رفقاء السلاح العودة إلي ما كان متفقا عليه في أهداف الثورة من العمل علي إقامة حياة ديمقراطية سليمة ودعم مناخ التعددية السياسية وإطلاق حرية تشكيل الاحزاب,وقوبل ذلك بمقاومة من البعض حيث حدث الصدام الذي سجله التاريخ وانتهي بالإطاحة بالمنادين بذلك بل والتنكيل ببعض القوي السياسية التي ساندت هذه الحركة, ومنذ ذلك اليوم لم تتوقف محاولات النضال من داخل النظام السياسي أو من خارجه للإصلاح والتغيير. وعبر امتداد نظام ثورة يوليو في عهد الرئيس الراحل محمد أنور السادات وصولا إلي النظام السابق لم يتوقف الشعب المصري عن إصراره علي بناء نظام سياسي يليق بمصر صانعة الحضارة. وعبر محاولات التغيير من خلال النضال الدستوري في صوره المختلفة جاءت المشاركة الفعالة في انتخابات البرلمان,ومقاومة كل أشكال التزوير والسطو علي إرادة المصريين,وتجييش القضاء المصري العظيم في الدفاع عن تلك الارادة الشعبية خصوصا بعد حكم المحكمة الدستورية للعظيم الراحل الدكتور عوض المر بالاشراف القضائي الكامل علي الانتخابات والتي كان آخرها انتخابات نوفمبر2010, وكانت الحلقة الاخيرة من هذا النضال الدستوري الذي فضح كل مساحيق التجميل السياسية التي حاول النظام السابق أن يزين بها أفعاله وخطاياه. واتجهت جهود القوي المجتمعية للمشاركة في العمل النقابي والطلابي والمحليات وتفعيل النشاط الحزبي وشارك أيضا الاعلام الحر والفن الهادف الراقي.. وكانت محطات نضال كبيرة مثل مظاهرات الطلاب في69 ومظاهرات17 و18 يناير1977, وما شهدته مصر خلال هذه العقود من محاكم استثنائية لقمع المعارضين دفع فيها كثير من أبناء الشعب المصري ثمنا غاليا من أعمارهم وحرياتهم.. كانت هذه المحطات بمثابة إنذارات وإشارات لم يحاول النظام الاستجابة لها ولكنه ضرب عنها الذكر صفحا وأكد مقاومته لمطالب الاصلاح والتغيير, مما أدي إلي ظهور حركات الاحتجاج السياسي الجديدة مثل حركة كفاية في عام2004 و حركة استقلال القضاء وغيرهما من حركات الاحتجاجات السياسية والمهنية التي تشكلت من خلالها تيارات واسعة وكيانات متعددة ضمت معظم القوي الفاعلة في المجتمع المصري.. وقد عملت تلك الحركات علي خلخلة النظام السياسي الذي حاول أن يستمر ويحافظ علي صلاحياته وامتيازاته مستخدما كل أدواته من أجل وقف هذه المحاولات سواء من خلال قانون الطوارئ أو المحاكم الاستثنائية أو من خلال المنظومة الشبكية للفساد المتجذرة في معظم مؤسسات الدولة, ولكن كل هذه الادوات لم تفلح في منع سقوطه عندما استكمل المجتمع المصري شروط نجاح ثورته والتي عرضناها في المقالات السابقة. ولدت إذن الثورة المصرية.. ثورة الخامس والعشرين من يناير عبر نضالات طويلة وحلقات متعددة من العمل الجاد من رجال مصر الشرفاء والذين نرفع لهم كل آيات الاحترام والتقدير في هذه الأيام ونحن مقبلون علي الاحتفال بمرور عامين علي ثورتنا العظيمة التي نحيي فيها أيضا كل شهدائها ومصابيها.. وللحديث بقية. المزيد من مقالات د.ياسر على