استوقفني مادار من مناقشات حول العديد من الموضوعات ذات الطابع القانوني في أثناء إعداد الدستور وعقب الاستفتاء عليه, حيث لاحظت, كما لاحظ العديد من المتابعين أن الخلاف حولها يعود إلي عدم الإدراك الصحيح للمفاهيم المحيطة بها, أو معالجة المتحاورين لها من منظور سياسي يبتعد عن الحيدة في الكثير من الأحيان, مما حدا بهم إلي الزج بالمفاهيم القانونية في هوة العمل السياسي واستخدامها لدحض رأي الآخر سواء عن حق أو باطل. وجاء موضوع زواج القاصرات ليأخذ مكانه في هذا الخلاف, فقد اعتقد البعض عن خطأ أن مفهوم زواج القاصرات علي إطلاقه يعكس إحدي صور الاتجار بالبشر فعمل جاهدا علي عدم الإشارة إلي هذا المصطلح بنصوص الدستور, وبدلا من أن يحاول الطرف الآخر تبيان حقيقة المفهوم القانوني السليم له تمسك بأن زواج القاصرات يمثل صورة من صور الاتجار بالبشر, فترتب علي ذلك عدم إدراج مصطلح الاتجار بالبشر بالدستور علي الرغم من أن مصر من الدول التي بادرت إلي المصادقة علي اتفاقية الأممالمتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة والبروتوكولات الملحقة بها ومن بينها بروتوكول منع ومعاقبة الاتجار بالأشخاص وبخاصة النساء والأطفال. وبالتالي جاءت صياغة المادة رقم73 من الدستور علي النحو التالي: يحظر كل صور القهر, والاستغلال القسري للإنسان, وتجارة الجنس, ويجرم القانون كل ذلك, بينما أن عبارة الاتجار بالبشر علي النحو الوارد بالقانون رقم64 لسنة2010 بشأن مكافحة الاتجار بالبشر والبروتوكول السابق الإشارة إليه تحمل أكثر من هذا المعني, فهي لا تعني فقط استغلال الإنسان في الجنس, بل أيضا في السخرة والرق والممارسات الشبيهة بالرق والعمل القسري وتجارة الأعضاء البشرية, وأيضا في الدعارة, وكلها ممارسات حظرها الإسلام وحاربها الرسول صلي الله عليه وسلم, أما عن استخدام عبارة الاستغلال القسري للإنسان فهي أيضا تخالف المعايير الدولية السارية وما هو منصوص عليه في القوانين المصرية النافذة, لأن استغلال الإنسان محظور بمختلف صوره وأشكاله سواء أكان قسريا أم غير قسري. أما عن عبارة تجارة الجنس فقد وردت غريبة ودخيلة علي نظامنا القانوني لأن الفقه القانوني درج علي استخدام عبارة الاستغلال في الجنس أو الاستغلال الجنسي وليس تجارة الجنس, فاستغلال الإنسان هو الغرض النهائي من الاتجار سواء كان موضوعه الجنس أو غير ذلك من صور الاستغلال الأخري, فضلا عن أن ما جاء بنص المادة سالفة الذكر من الدستور يخالف المادة العاشرة من الميثاق العربي لحقوق الإنسان التي تنص علي أنه يحظر الرق والاتجار بالأفراد في جميع صورهما ويعاقب علي ذلك, ولا يجوز بأي حال من الأحوال الاسترقاق والاستعباد. كما نصت الفقرة الثانية من ذات المادة علي حظر الاستغلال في الدعارة وسائر أشكال الاستغلال الجنسي, وغير ذلك من صور الاستغلال الأخري. لهذا فقد أكدنا في العديد من المحافل العلمية, أنه ليس كل زواج قاصر اتجارا بالبشر, وأنه لكي يتحول زواج القاصرات إلي اتجار بالبشر فيجب توافر عدة شروط منها: التصرف في الفتاة علي أنها سلعة تباع وتشتري مع توافر قصد الاستغلال الذي يكون في معظم الأحيان استغلالا جنسيا يخالف المفهوم الشرعي لمقاصد عقد الزواج كما هو معرف في الشريعة الإسلامية وما هو متعارف عليه في الشرائع السماوية الأخري. وتأكيدا لهذا التوجه أحالت محكمة جنايات الجيزة من قبل إحدي القضايا المنظورة أمامها لفضيلة مفتي الجمهورية لاستطلاع رأيه الشرعي بشأن واقعة استغلال جنسي لطفلة قاصر اختارها طاعن عربي ثري من بين العديد من الفتيات الصغار اللاتي تم عرضهن عليه فتزوجها الطاعن الثري علي خلاف القانون, بعد إغراء أهلها بالمنافع المادية. وفي ذلك قرر فضيلة المفتي إن الإسلام قد أقر كرامة الأنثي وأعلي شأنها, فأقام العلاقة الزوجية علي المودة والرحمة وراعي من أجل ذلك المواءمة والتوافق بين الزوجين, وأن جمهور الفقهاء اشترطوا في الولي العدالة, فلا تثبت الولاية عندهم للأب الفاسق, وأن تزويج البنت من غير كفء هو من علامات فسق الولي, وأن مثل هذه الطريقة في الزواج التي لا اعتبار للكفاءة فيها, بل المفتقرة لأدني مؤشرات احترام الآدمية, هي من الشواهد علي فسق الولي, وسقوط ولايته, وبطلان هذا النمط من عقود الزواج, لعدم توافر الشروط والأركان الحقيقية للزواج, ولكي يقيم الدليل علي توافر أركان جريمة الاتجار بالبشر بقصد الاستغلال الجنسي أشار فضيلته إلي أن أسلوب الوساطة الذي يحصل بعرض الفتيات القاصرات معا ليختار الرجل من تروق له منهن بطريقة رخيصة كلها امتهان للكرامة وإلغاء للآدمية وكأنهن جوار وإماء أو سلع تباع وتشتري مع علم الجميع أن هذا استمتاع مؤقت الأجل فيما يشبه الدعارة المقنعة; يناهض قواعد الشريعة الإسلامية ويشكل جريمة معاقب عليها قانونا. وبناء علي الفتوي المتقدمة, وتجنبا للخلط بين موضوع زواج القاصرات والاتجار بالبشر, فقد رأت الجهات الوطنية المختصة بمكافحة جرائم الاتجار بالبشر إطلاق عبارة زواج الصفقة علي هذا النوع من الزواج. لقد كانت مصر دائما في مقدمة الدول التي تحترم القوانين والأعراف الدولية, بحيث كان لها دور قيادي في تطبيق أعلي المعايير الدولية وفي التنسيق بين الدول العربية في هذا الشأن. ونحن علي يقين من أنه لا يوجد مصري غيور علي بلده لا يحرص علي استمرار مصرنا الغالية في أداء هذا الدور. لكل ذلك نأمل أن تكون المادة رقم73 من الدستور من بين المواد المطروحة للنقاش بشأن التعديلات القادمة للدستور حفاظا علي سمعة مصر ومكانتها في المحافل الدولية كدولة تحترم حقوق الإنسان, واضعين في الاعتبار أن مبادئ الشريعة الإسلامية الغراء وقد سبقت سائر المواثيق الدولية في حفظ حقوق الإنسان وصيانة كرامته- توفر أفضل الممارسات في مجال حماية الإنسان من الاستغلال بمختلف صوره وأشكاله, وهو أمر لم نفلح بعد في إبرازه علي الساحة الدولية. نائب رئيس محكمة النقض المزيد من مقالات المستشار.عادل ماجد