قبل أيام قلائل حبس العالم أنفاسه هلعا وقلقا علي صحة الزعيم الجنوب إفريقي نيلسون مانديلا الذي يقترب من عامه الرابع والتسعين, غير ان المخاوف هدأت غداة مغادرة الرجل الرمز للمستشفي ليكمل علاجه بمنزله ما يعني تحسن حالته الصحية بدرجة أو بأخري مع الأخذ في عين الاعتبار حكم السن وعوادي الزمن.. لماذا الاهتمام بمانديلا الآن؟ ربما يتوجب علينا والحالة هذه في العالم العربي عامة وفي مصر خاصة, أن نتوقف لحظات مع سيرة ومسيرة مانديلا, والتي هي بلا أدني شك انتصار علي الذات وتيار مضاد لشهوة الانتقام, ودعوة للحقيقة والمصالحة. ويري الناظر المحقق والمدقق للخارطة العربية, لا سيما في المواقع والمواضع التي انفجر فيها, ما اصطلح علي تسميته بالربيع العربي, وان لم يحسم بعد ما إذا كان ربيعا أم خريفا, أن شهوة الانتقام وروح الثأر, تكاد تلامس عنان السماء, ما يجعل الأمر قريبا من الثورات الدموية لا البيضاء وإن بدأت جميع تلك الحركات سلمية سلمية كما أنشد المتظاهرون. أعظم ما في مسيرة مانديلا تواضعه وإنسانيته وصدقه, وهو الذي إذا قال كان ولابد أن يصدقه الآخرون, لكنه أبدا ودوما يتذكر انه بشر. ويكتب مانديلا: لقد سرت ذلك الطريق الطويل نحو الحرية وحاولت ألا أتعثر, ولكني اتخذت خطوات خاطئة علي الطريق. وقد اكتشفت السر, إنه بعد أن يكمل الإنسان تسلق تل, يكتشف ان هناك تلالا أخري كثيرة عليه تسلقها.. ويضيف: لا أستطيع التوقف سوي لحظة لأن مع الحرية تأتي مسؤوليات, ولا أستطيع الإطالة لان مسيرتي لم تنته بعد... مع الحرية تأتي المسؤوليات, لا الفوضي والهدم والتنازع, دوجمائيا كان ام سياسيا, عرقيا أم ثقافيا. ما المدهش ويخلب الألباب في تجربة الزعيم الإفريقي الكبير؟ الانتصار علي الذات ومن جديد, سيما وأن كل المقدمات التي عاشها وسنوات السجن التي قضاها وراء القضبان, كانت كفيلة بان يباشر بدوره عمليات الانتقام المضادة, أليس الإنسان ذئبا لأخيه الإنسان كما يري الفيلسوف الانجليزي توماس هوبز, والآخرون هم الجحيم علي حد تعبير نظيره الفرنسي سارتر؟ يكتب مانديلا عن طفولته, مسقطا الكلام علي بني جلدته أجمعهم الطفل الإفريقي يولد في مستشفي للأفارقة فقط, ويحمل للمنزل في حافلة للأفارقة, ويعيش في مناطق الأفارقة, ويلتحق بمدارس الأفارقة فقط, ويركب قطارات الأفارقة ويؤمر في أي وقت من الليل والنهار ليبرز تصريحه, وإذا لم يفعل يلقي في السجن, وتحد حياته القوانين واللوائح والعنصرية التي تعوق نموه وتضيع إمكاناته وتشل حياته... كيف يتأتي لإنسان ما ان يتحلي بروح الصفح والمغفرة في هذه الأجواء؟ أليست هذه معجزة لا يراها الكثيرون من مؤرخي حياة الرجل ؟ في صباح الحادي عشر من فبراير عام1990 كان مانديلا البالغ من العمر وقتها اثنين وسبعين عاما يستعد لمغادرة السجن الذي بقي خلف جدرانه سبعة وعشرين عاما, علي ان أكثر ما يدهش المرء هو رغبته العارمة في وداع وعناق سجانيه: كان رجال كهولاء قد دعموا إيماني بجوهر الإنسان, حتي بالنسبة لهولاء الذين أبقوني خلف الجدران لسبعة وعشرين عاما.. كنت قد أخبرت السلطات أني أود وداع الحراس والسجانين الذين رعوني وقد طلبت ان يتواجدوا هم وأسرهم عند البوابة لأتمكن من شكرهم بنفسي. هكذا كان السجين العجوز يترفع عن الانتقام ويفسح المجال للصفح والعرفان لبداية جديدة. منذ اللحظات الأولي التي أعلنت فيها نتيجة فوز مانديلا بمنصب الرئاسة في جنوب إفريقيا, رأي الرجل ان مهمته هي التوفيق وايجاد الثقة, كان يعرف ان كثيرا من الأقليات خاصة البيض والملونين, كانوا يشعرون بقلق بشأن المستقبل وأراد أن يشعرهم بالأمان, ذكر الناس مرارا أن معركة التحرير ليست معركة ضد مجموعة معينة أو لون معين لكنها ضد نظام طاغ. في عيد ميلاده الثالث والتسعين كان مانديلا لا يزال يؤمن بأنه في وسعنا أن نغير العالم ونصنع منه مكانا أفضل, وفي متناول كل واحد منا ان يحدث هذا التغيير.. لكن يبقي شرط مانديلا الرئيس ماثلا أمام الأذهان في كلمتين لا أكثر الحقيقة والمصالحة.. هل بلغت شهوة قلب مانديلا ثوار العالم العربي؟