لن تتلقي مصر قرض صندوق النقد الدولي, الذي تسعي اليه حكومة هشام قنديل- لمواجهة عجز الموازنة وعجز المدفوعات وتآكل الاحتياطي, وبغرض جذب مزيد من الاستثمار الأجنبي والإقتراض من الخارج- بغير ثمن إجتماعي وسياسي فادح; فجر قبل نحو ربع قرن انتفاضة الخبز, وينذر بمزيد من عدم الاستقرار السياسي. ولا جدال أن تكريس النظام السابق للتخلف والتبعية, وإخفاقات إدارة فترة الانتقال التي أهدرت الاحتياطي النقدي وفاقمت عجز الموازنة وعمقت عجز المدفوعات, وتآمر قوي دولية وعربية ومحلية من أجل إفشال الثورة المصرية, عوامل تفسر الانزلاق الي فخ الاقتراض من الصندوق لمواجهة أزمة مالية تهدد بكارثة انهيار اقتصادي. لكن قرض الصندوق, تلازمه إملاءات بذريعة ضمان سداده; تستهدف تقليص دعم موازنة الدولة للفقراء وتطبيق الأجندة الفاشلة للسوق الحرة. وستدفع مصر ثمنا باهظا; بتفاقم معاناة غالبية المصريين, الذين تطلعوا الي العدالة الاجتماعية والخلاص من الفاقة والحاجة بعد ثورة25 يناير, وبمزيد من هدر السيادة الاقتصادية للأمة المصرية, التي استهدفت ثورتها استرداد الكرامة الإنسانية والوطنية. ولا جدال أيضا أن الاقتراض الخارجي والاستثمار الأجنبي ضرورة عرفتها مصر حتي في ظل مشروع ثورة23 يوليو للتنمية المستقلة, وإضافة مكنت البلدان الصناعية المتقدمة والجديدة والصاعدة من تسريع التصنيع والتقدم. لكنه في الحالتين, جري جذب التمويل الخارجي; لتسريع تنمية وتصنيع تحققا بالاعتماد علي الإدخار والإستثمار الوطني بالأساس, وليس لمواجهة عجز متفاقم ومتجدد للموازنة والمدفوعات ليس ثمة ما يبشر بالخلاص منه في الأجل المنظور. ولعل مبعث الخطر الأهم للمسعي الراهن الي التمويل الخارجي يكمن أنه لا يتم في سياق رؤية واضحة لنظام اقتصادي واجتماعي يجمع بين أدوار السوق والدولة والقطاع الخاص والقطاع العام بما يحقق كفاءة تخصيص الموارد ويضمن العدالة الإجتماعية, وهو ما انتقدت غيابه في الدستور. كما أنه لا يتم في سياق رؤية للأمن الاقتصادي تستهدف حماية السيادة الاقتصادية وتعظيم التنافسية الاقتصادية, بتسريع التنمية والتصنيع وتقليص الانكشاف والتبعية, وهو ما دفعني للمطالبة بتشكيل مجلس للأمن الاقتصادي القومي. وقد بينت في مقال سابق, بالتعلم الإيجابي من الخبرة الأمريكية استنادا الي دراسة معهد راند الأمريكي لبحوث الدفاع القومي, أن القوة الاقتصادية ركيزة الأمن القومي والإنساني, وأن كرامة المصريين لن تصان ولن تتحسن نوعية حياتهم, وأن مصر لن تسترد مكانتها ولن تحترم إرادتها بغير تعظيم القدرة الاقتصادية الإنتاجية الوطنية, بدءا من تصنيع مصر وتقدمها التكنولوجي. وأن الأمن الاقتصادي, القومي والإنساني, باعتباره سبيل التحسين المطرد لمستوي الدخول والمعيشة ونوعية الحياة, وحماية المصالح الوطنية من التهديدات الخارجية, يرتكز الي التوزيع العادل للدخل, والوصول للأسواق الخارجية. وقد سلمت الدراسة المذكورة أن التعاون الاقتصادي الدولي كرافعة لتعزيز الأمن الاقتصادي القومي يتضمن تنازلا محتوما عن قدر من السيادة الإقتصادية الوطنية, وقلت إنه هنا بالذات علينا التعلم من الصين. وأكتفي هنا بعرض دراسة مدير مركز بحوث الأمن الإقتصادي بمعهد الصين للعلاقات الدولية المعاصرة, المعنونة الأمن الإقتصادي: إصلاح الاختلال, والمنشورة غداة إنضمام الصين لمنظمة التجارة العالمية, وبعد نحو ربع قرن من انفتاحها الاقتصادي. وتحدد الدراسة, المستندة لمصادر رسمية ومراكز تفكير صينية, ركائز الأمن الاقتصادي; شاملة ما يلازم حالة الصين وما يفيد مصر. ولعل أهم ما نتعلمه أن الأمن يتحقق بالقدرة علي توفير زيادة مطردة في مستوي معيشة مجمل السكان عبر تسريع التنمية والتصنيع, مع المحافظة علي الاستقلال الاقتصادي وحماية المصالح الاقتصادية الوطنية من التهديدات الخارجية. وتعرف الدراسة السيادة الاقتصادية الوطنية بأنها مقدار سيطرة دولة ما علي تنميتها الاقتصادية ومدي قدرتها علي مقاومة التدخل الخارجي, وتعلن أنها مثل الهوية الوطنية غير قابلة للتنازل عنها لآخرين, وتتضمن سلطة اقتصادية لا ينبغي تقاسمها مع بلدان أخري, وتوجب استئثار الأمة بسلطة صنع القرار في اختيار نظامها الاقتصادي وملكية مواردها الطبيعية, وسيطرة الدولة علي سوقها المحلية والمشروعات والصناعات الرئيسية والعسكرية! لكن الدراسة, وبروح عملية, تسلم بأن ثمة سلطة اقتصادية يمكن تقاسمها مع الآخرين; تشمل السياسات والمؤسسات الاقتصادية غير الأساسية; والتي يتباين مقدار التنازل حسب القوة الاقتصادية للدولة. وتقول الدراسة إن الصين- في زمن الحرب الباردة تحت تأثير بيئة دولية معادية ورؤية أيديولوجية جامدة- قد حافظت علي سيادتها المطلقة وسعت للاكتفاء الذاتي, فأغلقت سوقها واستهدفت تصنيعا مستقلا تمتع بالحماية, ولم تدخل في معادلة أمنها الاقتصادي تعزيزه بتعظيم تنافسيتها في السوق العالمية, فصار غير متوازن وعلي حافة الانهيار! ومع الانفتاح تحسنت تنافسيتها الدولية; بجذب الاستثمارات ومضاعفة الصادرات ونقل التكنولوجيات المتقدمة والخبرات الإدارية والتسويقية وتدريب المواهب المحلية وتوسيع السوق الداخلية. وقد حققت قصة نجاح مبهرة مع حماية أمنها الاقتصادي, بإقامة اقتصاد سوق مفتوح لكنه منظم واجتماعي ومتقدم, وبفضل دولة قوية كفء لا تهادن الفساد المحلي والوافد! وبمعدلات مرتفعة للادخار والاستثمار لم يهدرهما استهلاك ترفي منفلت! وبدور متنام لرأسمالية وطنية تمارس مسئوليتها التنموية والمجتمعية والوطنية وتخضع لدولة حارسة لهذه المسئولية. وقد جذبت الصين حصة هائلة ومتزايدة من الاجمالي العالمي للإستثمار الأجنبي المباشر, بفضل استقرار سياسي واقتصادي وسوق واسعة وعمل رخيص وبنية أساسية, وأخيرا بالمزايا والاستثناءات. وفي مواجهة إخفاقات وتهديدات التدفق الهائل للاستثمار الأجنبي, دعت الدراسة الي حكومة مستقلة وفعالة تتمكن من تحديد قواعد اللعبة في السوق الوطنية, ليكون الانفتاح: متوازنا; بانهاء هدر المنافسة في السوق, وتبني سياسات تفضيلية لصناعات ومناطق محددة, وعدم السماح بامتيازات تنفرد بها المشروعات الأجنبية; وانتقائيا; بإنهاء الترحيب برأس المال الأجنبي دون تمييز, وانتقاء ما يراعي الأولويات الاقتصادية الاستراتيجية الوطنية. ومتبادلا; بأن يقابل بانفتاح الطرف الآخر علي صادرات واستثمارات الصين, واتخاذ إجراءات رادعة لازدواج للمعايير. المزيد من مقالات د. طه عبد العليم